منتديات دفاتر التربوية التعليمية المغربية - عرض مشاركة واحدة - عودة السجين
الموضوع: عودة السجين
عرض مشاركة واحدة

الصورة الرمزية الحواط
الحواط
:: دفاتري بارز ::
تاريخ التسجيل: 6 - 2 - 2008
المشاركات: 128
معدل تقييم المستوى: 0
الحواط في البداية
الحواط غير متواجد حالياً
نشاط [ الحواط ]
قوة السمعة:0
قديم 22-10-2008, 18:03 المشاركة 1   
افتراضي عودة السجين

عودة السجين

الليلة ، لفظته الزنزانة ، وتخلص منه السجان .
ألفى نفسه ، مع بزوغ نور الفجر ، لأول مرة خارج المحمية بدون حراسة. غير مكبل اليد ولا معصوب العين ،
مسكوبا فوق كرسي الإسمنت ، بحديقة الشارع الرئيسي لمدينته .
حرك يديه ومسح على وجهه وعينيه . حاول فتحهما فرشقهما الضوء . لم يتحمله فأغمضهما . ثم أخد يتعود على الضوء رويدا حتى انقشع الضباب وأخذ يتتبع المارة : راجلين وسيارات وعربات .
استوى جالسا وكأنه يستعيد الحياة من جديد .
رقت لحاله امرأة وزوجها خرجا باكرا قصد السفر ، رأته مطويا فوق مقعد الحديقة العمومية
، شاحب اللون ، نحيل البنية ، ممزق الأطمار، مشردا ، اقتربت منه وسلمت ، يجيب بعينيه وملامحه ، ولا ينطق بلسانه .
لسانه لحمة محمرة منتفخة ضاق بها تجويف فمه وما تبقى من اسنانه.
ألقت في يده بعض الدراهم صدقة لوجه الله .
أبصرهما ، ولم يتبين ما قالت ، وإنما سمع دويا عميقا غير مفهوم .
مد يديه يشير إليهما ..
ساعدوني لأقف .
حاولا معه حتى استوى قائما وأخذ يخطو بعض الخطوات .
حمد الله كثيرا أن أبقى له قدرا من الطاقة ، ويطلب منه العون والقدرة ليصل عند أهله .
سلمته المرأة بعض ما معها من الزاد وانصرفا .
حاول أن يتناول منه قليلا فما استطاع مضغه وبلعه .
أخذ يسترجع معالم المدينة ومسالكها .
تغيرت معالمها كثيرا ، بنايات شاهقة متراصة على جنبات الشارع ، ولوحات إشهار فاخرة زينت واجهات المحلات التجارية .
تأمل المكان وتبين أنه على مسافة من بيت أهله .
استرجع ذاكرته ، وتعرف على الموقع كما تعرف على بعض الوجوه من المارة ، ولكن أحدا لم يستطع اكتشاف هويته.
إنه تغير راسا على عقب .
أصبح ، مقوس الظهر ، أصلع الرأس ، أصفر البشرة ، غائر العينين ، لا يمت بأية صلة لما كان عليه قبل اختفائه .
تدحرج ببطء شديد، وأخذ يخطو خطو السلحفاة نحو بيت أهله .
يتوقع لقاء زوجته التي تركها حاملا من شهرين ،
ورؤية والديه المنكوبين والمكلومين بفقدانه ،
والسلام على أخته التي تليه ،
وتفقد أخيه المشاكس العنيد .
تذكر كيف كانت أخته تلهو بفناء الدار ، مع بعض بنات الجارة بالعرائس المصنوعة باليد ، المكسوة ببعض بقايا القماش المزركش ،
كما تذكر أخاه الأصغر المشاغب ، وصعوبة انصياعه لأوامر كل كبير في الأسرة .
لقي في طريقه أحد طلابه بالجامعة آنذاك ، لم تتغيرهيئة الطالب ولا ملامحه .
توقع أنه سيصافحه ويعانقه ، لكنه أيضا لم يتعرف على السجين المشرد . وضع الشخص بعض الدراهم بيده صدقة لوجه الله .
تيقن عندها أنه مجهول في البلد .
استمر في شق طريقه دون أن يعبا بأحد ، لأنه في نظرهم في عداد الموتى ، وعاد اليوم بهيكل وهيئة وملامح غريبة ومشوهة . .
قضى اليوم كله في الطريق إلى البيت .
وقف قليلا بمدخل الزقاق المؤدي إليه ،
الناس عائدون من السجد بعد أداء صلاة العشاء .
مصباح الزقاق اليتيم يبعث نورا خافتا لا يضيئ حتى العمود الذي يحمله ،
بدأ يتبين الأصوات ويميز بينها . يتأمل الوجوه ويحييها في صمت ، بعضهم من أصدقائه ومعارفه وجيرانه ،
لم يأبه أحد بحضوره إلى الحي ،
تابع طريقه ، يتهادى ويترنح ، حتى ولج باب البيت .
لعلها البناية الوحيدة في المدينة التي لازالت على أصلها . عتا عليها الزمن ، وتأثر ت بعوامل الدهر فبدت هرمة متآكلة وكانها آيلة للسقوط .
توجه إلى حجرته القديمة ، وجدها هي هي بأثاثها وتجهيزاتها وأغراضها ، وكأنه خرج منها لبعض الوقت ثم عاد .
استقبله فتى من سكان الدار، قوي البنية ، وسيم الطلعة ، في ريعان شبابه .
سأله الشاب عن وجهته وغرضه .
لم يتمكن من الجواب .
وأنى له أن يفعل !
وما وسيلته للحديث والتخاطب ؟
إنه عاجز عن النطق والتعبير .
اكتفى في الرد بعبرات الدمع المنهمر، المبلل لشعر لحيته الرث المبعثر .
واستعاض عن النطق بحركات أنامله المرتجفة .
لم يتمكن الفتى من معرفة قصده ووجهته ، واعتقد أنه في حاجة لأكل أو مساعدة .
أخذ بيده ورافقه إلى خارج المنزل ، وسلمه بعض النقود والطعام . وودعه .
التفت العائد يمنة ويسرة ، وحاول طرق الباب فلم يستطع .
آوى إلى ركن بجوار الباب محاولا الاستسلام إلى النوم .
لأول مرة منذ سنوات ينام حرا طليقا بمكان هو الذي اختاره وحدده .
تغمره سعادة دفينة ، لأنه لم ييأس من لقاء أبويه وأهله .
لم يلم الفتى على صنيعه . وأصر على البقاء حتى يتبين مصير زوجته وذويه .
نسي الفتى ،...
ولم يخبر أمه وجدته بالغريب . فقضى ليلته بالعراء إلى جوار بيتهم .
وفي الصباح خرج الفتى - كعادته - باكرا، فوجد الغريب جالسا القرفصاء تصطك جوانحه من شدة البرد . فرق لحاله ، وأدخله إلى البهو وزوده بألبسة وأغطية ، وتركه .
عرجت أم الفتى بعد أداء الصلاة على البهو ، فاستغربت وجود شخص غريب مستغرق في نوم عميق . تركته وعادت لإتمام بقية أشغالها .
ثم لم تطمئن ،
فعادت إلى البهو من جديد، وأزاحت الغطاء عن وجه النائم .
رجل مشرد .
ومن الذي أدخله وأحسن إليه ؟
ملامحه مالوفة عندها .
فقالت في نفسها :
يخلق من الشبه أربعين ...
سبحان من لا شريك ولا شبيه له ...
سالت ابنها بعد عودته من المسجد ،
فأجاب بأن الغريب ولج الدار مساء أمس ، وأخرجته ، ففضل قضاء الليل بجاورها ، ولما شعر بقربي منه صباحا أخذ يشير بأصبعه إلى صدره ثم إلى الدار . وكأنه يرغب في الاحتماء من لفحات البرد القارس داخل الدار ، فلبيت رغبيه .
فردت الام على ابنها ، لا أظنه يقصد الاحتماء من البرد، إن ملامحه مألوفة عندي .
استعان الغريب بهما ليجلس ، ودموعه لا زالت وسيلة تعبيره الوحيدة عن آلامه وحسرته ورغباته .
الجدة مقعدة في سريرها تنادي الفتى من بيتها بصوت مرتفع .
فسمعها الغريب وعرفها من صوتها .
شعرت هي بالغريب ، وسمعت حديثهم عنه ، فحركتها عاطفة الأمومة ، وتحدت الآلام والمرض وامتطت كرسيها المتحرك ، ودلفت متوجهة نحو الغريب .
بادرها الغريب قبل وصولها وحاول اعتصار الحروف ، وناداها بصوت مضطرب غير واضح ولا مفهوم

" أمي " ،

سمعته ، وفهمته ، وعرفته ، وصاحت بأعلى صوتها :

ابني الحبيب ...

ابني الحبي ...

ابني الح ...

وارتمت محاولة احتضانه ، فهوت إلى الأرض مغشيا عليها .
كانت صدمة المفاجأة أقوى من قدرة تحملها .
احتواها الفتى بذراعيه وحملها إلى فراشها .
وأخذت أم الفتى بيد الابن العائد ، وساعدته للوصول إلى بيت أمه .
جثا على ركبتيه تحت قدميها ،
نسي آلامه وأوجاعه برؤية أمه وأهله .
ضخ الفتى رشات من الماء البارد على وجهها ، إلا أنها لم تستعد وعيها حتى نقلت على عجل مع ابنها العائد إلى مصحة المدينة .
بغرفة العلاج التفتت نحو العائد ، و تلمسته بيديها معا .

أأنت .....

أأنت ......

أأنت

وأين كنت طوال هذه المدة ؟ .
تتابع تفحصها لكل جسده وتقول :
لم تكن يا ولدي الغالي لا مع الأحياء ولا من عدادهم ... . أبدا ... أبدا ... .
كأنك خرجت من قبر ونبعت من بين الأجداث
. لا يمكن لأي حي يرزق ويتحرك أن يكون مثل ما أنت عليه .
بدنك وحالك وثيابك تفصح عما كنت فيه ، وتحكي حجم معاناتك .
أخذهو كذلك يستعيد عافيته بالتدريج .
فتأكدت من صدق فراستها ، وحقيقة توقعها ، لما علمت منه بعض تفاصيل الكوارث التي عانى منها ، والمصائب التي قاساها ، منذ اختطافه من مقهى الحي ، إلى اليوم .
أمي ... – بصوت متحشرج مفعم بغنة البكاء - رحم الله أبي وأخي وأطال عمرك وعمر أختي وأهلها وزوجتي وابنتي ....
أطرقت برأسها . فانهمرت دموعها ولم تتمالك نفسها فارتفع شهيقها وأنينها وأخذت تردد وتبكي :
ألا تعلم أنك غبت عنا أزيد من ثلاثين حولا ؟
مات أبوك حسرة وكمدا ، مفجوعا باختطافك ،
وأصيب أخوك بعده بقليل ، بمرض عضال لم يمهله طويلا .
وأما زوجتك فانتظرت عودتك مدة تزيد على العشرين سنة ، ولما تزوجت ابنتها ورحلت وبقيت وحيدة ، مرضت واضطربت ، فتوقعنا هلاكها ، وأشرنا عليها ، كما أشار عليها أطباؤها ، بالاقتران بأحد الرجال الراغبين في الزواج منها ، لصون حرمتها والحفاظ على كرامتها ، وضمان سلا مة صحتها ، وتطبيق شرع الله وتنفيذ تعاليم رسوله .
أمي ... هل لي أن أتمكن من رؤيتهما وتهنئتهما والاطمئنان عليهما .
أما ابنتك فمن حقك إحياء صلة الرحم بها ، وسأدعوها وزوجها وأبناءها لرؤيتك ببيتنا وأمامي وبحضور كل أفراد أسرتك . حيث سنقيم حفلا بمناسبة انبعاثك من جديد .
أعادت تلمس جسده ورأسه ووجهه وأمسكت بأنامل يديه .
حالتك الصحية يرثى لها ... ربما تتطلب مكوثك لعدة أيام تحت رعاية الأطباء المتخصصين بهذه المصحة .
بهذه المصحة قضى أبوك وأخوك ، وبها عولج العديد من أفراد أسرتك ، كما أني تعودت على النزول بها كلما كنت في حاجة لعناية بالقلب أو رعاية للتنفس أو تطبيب واستشفاء .... .









آخر مواضيعي

0 مكانة السنة في التشريع
0 أقسام الحديث الحسن
0 الحديث الحسن
0 المصنفات في الحديث الصحيح
0 الحديث الصحيح
0 الحديث الصحيح
0 أقسام السنة النبوية
0 السنة النبوية وأهميتها في التشريع
0 الحديث النبوي ــ الحديث القدسي
0 من كنوز التراث العربي : رسالة الغفران