منتديات دفاتر التربوية التعليمية المغربية - عرض مشاركة واحدة - نصوص من تراثنا العربى
عرض مشاركة واحدة

m.hajjaji
:: دفاتري ذهبي ::


تاريخ التسجيل: 3 - 9 - 2008
المشاركات: 1,208

m.hajjaji غير متواجد حالياً

نشاط [ m.hajjaji ]
معدل تقييم المستوى: 314
افتراضي
قديم 14-05-2009, 20:18 المشاركة 5   


هنا نص أدبي آخر، وهو لنزار قباني . ورغم أنه حديث، إلا أنني أعتبره تراثا جميلا ، أتمنى أن يتذوقه التلاميذ والطلبة، على الخصوص :

" ... هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة َ.
إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ، ولكن ثِقوا أنني بهذا التشبيهِ لا أظلم قارورة َالعطر ... وإنما أظلم دارَنا !
والذين سَكنوا دمشقَ، وتغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيقةِ، يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعَيها من حيث لا ينتظرون ...
بوّابة صغيرة من الخشب تنفتحُ . ويبدأ الإسراء على الأخضر، والأحمر، والليلكيّ، وتبدأ سمفونية الضوء والظّل و الرخام .
شجرة النارنج تحتضن ثمارها، والدالية حامل، والياسمينة وَلدتْ ألفَ قمر أبيضَ وعلقـَتـْهم على قضبان النوافذ...وأسرابُ السنونو لا تصطاف إلا عندنا ...
أ ُسُودُ الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمَها بالماء... و تنفخـُه... وتستمرُّ اللعبة المائية ليلاً ونهاراً... لا النوافيرُ تتعبُ... ولا ماءُ دمشقَ ينتهي ...
الوردُ البلديّ سجَّاد أحمرُ ممدودٌ تحت أقدامك.. و اللـَّيلكَة تمَشـّط شعرَها البنفسجي، والشمشِير، والخبَّيزة، والشابّ الظريفُ، والمنثور، والريحان، والأضاليا... وألوفُ النباتات الدمشقية التي أتذكَّر ألوانـَها ولا أتذكر أسماءَها... لا تزال تتسلق على أصابعي كلـَّما أردْتُ أن أكتب ...
القطط ُالشامِّية النظيفة الممتلئة صحة ً ونضارة تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلـَها و رومانتيكيتها بحريّة مطلقة، وحين تعود بعد هجر الحبيب، ومعها قطيعٌ من صغارها، ستجد من يستقبلها و يُطعمها و يكَفكِف دموعَها...
الأدراجُ الرخاميّة تصعدُ... وتصعد...على كيفها... والحمائمُ تهاجر وترجع على كيفها... لا أحدَ يسألها ماذا تفعل؟
والسمكُ الأحمر يسبح على كيفه... و لا أحد يسأله إلى أين؟ وعشرون صحيفة فلّ في صحن الدار هي كل ثروةِ أمي . كلُّ زرّ فـُلٍّ عندها، يساوي صبيّاً من أولادها... لذلك، كلما غافلناها و سرقنا ولداً من أولادها...

بكتْ... و شكَتـْنا إلى الله..
***

ضمن نطاق هذا الحزام الأخضر.. وُلدتُ، وحبَوتُ، ونطقتُ كلماتي الأولى .
كان اصطدامي بالجمال قدراً يومياً. كنتُ إذا تعثـَّرتُ، أتعثـَّر بجناح حمامة... و إذا سقطتُ، أسقط في حضن وردة ...
هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ على كل مشاعري و أفقدني شهِّية الخروج إلى الزقاق.. كما يفعل الصبيانُ في كل الحارات...
ومن هنا نشأ عندي هذا الحسُّ (البيوتيّ) الذي رافقني في كلّ مراحل حياتي .
إنني أشعر حتى اليوم بنوع من الاكتفاء الذاتي، يجعل التسكـُّع على أرصفة الشوارع، واصطيادَ الذباب في المقاهي المكتظة بالرجال، عملاً ترفضه طبيعتي .
وإذا كان نصف أدباء العالم قد تخرج من أكاديمية المقاهي، فإنني لم أكن من متخرّجيها.
لقد كنت أؤمن أن العمل الأدبي عمل من أعمال العبادة، له طقوسه ومراسميه و طهارته . وكان من الصعب عليَّ أن أفهم كيف يمكن أن يخرج الأدب الجادّ من نرابيش النراجيل، و طقطقة أحجار النرد...
***
طفولتي قضيتها تحت (مظلـّة الفيْء و الرطوبة) التي هي بيتنا العتيق في (مئذنة الشحم).
كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي، كان الصديقَ، والواحة، والمشتى، و المصيفَ ..."


نزار قباني ، من كتاب : "قصتي مع الشعر" .