هسبريس : 16 - 09 - 2011
بسم الله الرحمن الرحيم
محافظة أي أمة على لغتها أمارة الاعتداد بنفسها والاعتزاز بثقافتها، ودلالة الاستقلال في الفكر والحرية في الانتماء، وانسلاخ الأمة من لغتها والذوبان في لغة غيرها علامة التيه والضلال، وقد ران على صدر الأمة الاستعمار اللغوي الجاثم على صدرها؛ حيث فرضت عدد من الدول الإسلامية على أبنائها تعلم مختلف العلوم بلغات لا صلة لهم بها لتكون هي لغة تعليم جل العلوم.
وتعليم عدد من المواد العلمية في كثير من الدول العربية باللغات الأجنبية لا يرجع إلى غياب التعريب فقط؛ بل إلى عدم قناعة المؤسسات التعليمية والمدرسين بجدوى التعليم بالعربية، وليت الأمر يتوقف عند حد الكلام والبيان بل يتجاوز عجمة اللسان لتصيب تلك العجمة الجنان، وذلكم هو القصد والمراد؛ فاللغة تحمل معها الهوية والثقافة، ولا يمكن لأي لغة أن تكون مجردة وبمعزل عن حمل القيم والأفكار، ونحن هنا لسنا نريد التقليل من أهمية تعلم اللغات؛ لكننا نورد أن نوصل فكرة مفادها: أن لا معنى لتعلم العلوم وتلقينها لأبناء الأمة بلغة الغير؛ في حين تترك اللغة الأم وتهجر؛ فتعلم لغة معينة شيء، والتعليم بها شيء آخر، وندعو إلى تعلم اللغات وإتقانها أما التعليم بها فنرفضه ولا نرضاه، ولا نقبل سوى التعليم بلغتنا الأم لغة الدين والعقيدة. "ويشهد العالم العربي ما يمكن أن نطلق عليه "ردة لغوية"، فبينما كان التعليم باللغة الأجنبية مقتصرا على العلوم العملية كالطب والهندسة، هاهي بعض الجامعات تعلم العلوم الاجتماعية والاقتصادية باللغات الأجنبية، وتنشئ كليات الاقتصاد والتجارة والحقوق أقساما موازية للتعليم باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وتغفل اللغة العربية تماما، وقد أفرز ذلك طبقة لغوية متفرنجة، أكثر من الفرنجة، تستخف بشدة باللغة العربية إلى حد النفور أحيانا".
وإن تعجب فعجب من أمر اليهود في استمساكهم بعبريتهم ودفاعهم المستميت عنها؛ رغم أنها لغة حفنة وشرذمة من الناس، كان يفترض أن لا يأبه لها وأن لا يكون لها شأن؛ لكنهم بعزيمتهم وإصرارهم وحرصهم على الاستمساك بهويتهم حرصوا كل الحرص على نشرها وإذاعتها ومد الجذور لها بين أبنائها أولا ثم يسعون في نشرها بين أمم الأرض، والتعليم عند هؤلاء القوم بلغتهم ولا يرضون أبدا أن يعلموا بلغة غيرهم؛ وكل ما ما استجد من دراسات ونظريات في مختلف المجالات والفنون تترجم على الفور ولا تدرس لأبنائهم باللغة التي اكتشفت بها؛ بل لابد من نقلها إلى العبرية ومن ثم تنقل إلى ذهن الإنسان اليهودي؛ ليظن كل شيء عنده مرتطبا بالعبرية ولتبقى العبرية هجيراه وسداه؛ حتى تخالط لحمه ودمه، وتصبح جزءا من دينه وعقيدته لا يقبل التفريط فيها أبدا بحال؛ عكس ما هو منتشر تماما اليوم بين الشعوب الإسلامية التي تمج لغتها وتتأفف منها رامية إياها بالقصور، والقصور إنما هو في العقول التي لم تستطع أن تضع أسماء لمسميات مخترعات؛ فأمم الأرض كلها تبذل الجهد لخلق المصطلحات لما يستجد من الأشياء، وكيف يعقل أن تكون العربية وهي أغنى اللغات وأثراها عاجزة عن احتواء بعض المخترعات أو إيجاد بعض الأسماء، إن الأمر لا يتعلق بفقر اللغة أو غناها؛ إنما الأمر يتعلق بالهمم والعزائم وحماسها أو فتورها؛ فالهمم لما تكون ذابلة يمكن أن تفرط في كل شيء، في الدين، والعقيدة، واللغة، وغير غريب أن يفرط في اللغة من فرط الدين، والتفريط في اللغة من التفريط في الدين أيضا.
وبعدما ثارت الشعوب العربية على عدد من المظاهر السلبية التي كانت تطمس حياتها مما فرض عليها فرضا وجعل لها كرها، عليها أن تواصل ثوراتها ضد كل المظاهر السلبية في حياتها وأن لا تقتصر على مجال دون مجال؛ فالحرية والكرامة التي اتفقت كل الشعوب الثورية على المطالبة بها لا يمكن أن تتحقق إلا بالقضاء على كل المظاهر السلبية التي تسلب هاته الكرامة وتورث الذل والمهانة سواء تعلق الأمر بالتسلط الداخلي أو الخارجي؛ بل الخارجي أشد، ولاشك أن من هاته المظاهر السلبية المناهج التعليمية الغريبة التي وضعت في ظروف يلفها كثير من الغموض لتغريب المجتمعات وإبعادها عن دينها وثقافتها وهويتها، إن من أولى الأولويات التي يتعين على الشعوب أن تسعى في تحقيقها تعديل مناهج تربيتها وتعليمها لتكون موافقة وملائمة لهوية الأمة وثقافتها وتنبع من دينها وعقيدتها، وأن تطرد عنها كل غريب.
إن نهوض الشعوب الإسلامية وردم فجوة سقوطها الحضاري، مرهون إلى حد كبير بإعادة النظر في مناهج التربية والتعليم.
إننا بحاجة لسماع وتطبيق: الشعب يريد تعريب التعليم.