إنها حقيقة لا مراء فيها، فالبكاء منخشية الله تعالى يلين القلب ،ويذهب عنه أدرانه، قال يزيد بن ميسرة رحمه الله : "
البكاء من سبعة أشياء : البكاء من الفرح ، والبكاء من الحزن ، والفزع ، والرياء ،والوجع ، والشكر ، وبكاء من خشية الله تعالى ، فذلك الذي تُطفِئ الدمعة منه أمثال البحور من النار ! " .
وقد مدح الله تعالى البكائين من خشيته، وأشاد بهم في كتابه الكريم: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا. ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا. ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاالإسراء 107-109.
البكاء سلوك غريزي:
نعم هذه هي الفطرة فالإنسان لايملك دفع البكاء عن نفسه ، يقول الله تعالى: ( وأنّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ) [ النجم / 43 ] قال القرطبي في تفسيرها : " أي : قضى أسباب الضحك والبكاء ، وقال عطاءبن أبي مسلم : يعني : أفرح وأحزن ؛ لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلبالبكاء...
أنواع البكاء:
لقد ذكر العلماء أن للبكاءأنواع، ومن هؤلاء الإمام ابن القيم رحمه تعالى إذ ذكر عشرة أنواع هي:
1- بكاءالخوف والخشية .
2-بكاء الرحمة والرقة .
3- بكاء المحبة والشوق .
4- بكاء الفرح والسرور .
5- بكاء الجزع من ورود الألم وعدم احتماله .
6- بكاء الحزن .... وفرقه عن بكاء الخوف : أن الأول -" الحزن " - يكون علىما مضى من حصول مكروه أو فوات محبوب وبكاء الخوف : يكون لما يتوقع في المستقبل منذلك ، والفرق بين بكاء السرور والفرح وبكاء الحزن أن دمعة السرور باردة والقلب فرحان ، ودمعة الحزن : حارة والقلب حزين ، ولهذا يقال لما يُفرح به هو " قرة عين " وأقرّ به عينه ، ولما يُحزن : هو سخينة العين ، وأسخن الله به عينه .
7- بكاء الخور والضعف .
8- بكاء النفاق وهو : أن تدمع العين والقلب قاس .
9- البكاء المستعار والمستأجر عليه ، كبكاء النائحة بالأجرة فإنها كما قالأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : تبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها .
10- بكاء الموافقة : فهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر فيبكي معهم ولا يدريلأي شيء يبكون.
فضل البكاء من خشية الله:
إن للبكاءمن خشية الله فضلا عظيما ، فقد ذكر الله تعالى بعض أنبيائه وأثنى عليهم ثم عقببقوله عنهم: ( إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ) [مريم58].
وقالتعالى عن أهل الجنة : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ . قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ . فَمَنَّ اللَّهُعَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ . إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُإِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } [ الطور 25 – 28 ]
أما رسول الله صلىالله عليه وسلم فقد قال: " لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع " .
وقالَ: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاظِلَّ إلا ظلُّهُ..."وفي آخره:" ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ " .
وقال:
" عينان لا تمسهما النار ، عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس شيء أحبإلى الله من قطرتين وأثرين : قطرة من دموع خشية الله ، وقطرة دم تراق في سبيل الله، وأما الأثران : فأثر في سبيل الله ، وأثر في فريضة من فرائض الله ".وكان السلفيعرفون قيمة البكاء من خشية الله تعالى،فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول:
" لأن أدمع من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار ! " .
وقال كعب الأحبار : لأن أبكى من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهباً.
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم:
عَن ابن مَسعودٍ - رضي اللَّه عنه – قالَ : قال لي النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : " اقْرَأْ علي القُرآنَ " قلتُ : يا رسُولَ اللَّه ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ ،وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟ ، قالَ : " إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي " فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء ، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية : ( فَكَيْفَ إِذاجِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيداً ) [ النساء / 40 ] قال " حَسْبُكَ الآن " فَالْتَفَتُّ إِليْهِ ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ .
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يحفرون قبرا لدفن أحد المسلمين وقف على القبر وبكى ثم قال :
" أي إخواني، لمثل هذا فأعدوا " .
أما عبداللَّه بنِ الشِّخِّير - رضي اللَّه عنه – فيقول : أَتَيْتُ رسُولَ اللَّه صَلّىاللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وَهُو يُصلِّي ولجوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ .
وقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله..." الحديث.
وقام ليلة يصلي فلم يزل يبكي ، حتى بل حِجرهُ !
قالت عائشة : وكان جالساً فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بل لحيته !
قالت : ثم بكى حتى بل الأرض ! فجاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فلما رآه يبكي ،قال : يا رسول الله تبكي ، وقد غفر الله لك
ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال : " أفلا أكون عبداً شكورا ؟! لقد أنزلت علي الليلة آية ، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ …) الآية.
بكاءالصحابة رضي الله عنهم:
لقد رأينا شيئا من بكائه صلى الله عليه وسلموقد تعلم الصحابة رضي الله عنهم من نبيهم البكاء فعن أنس رضي الله عنه قال : خطبرسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال : " لو تعلمون ما أعلملضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً " ، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههمولهم خنين ، وفي رواية : بلغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطبفقال : " عرضت عليَّ الجنة والنار فلم أر كاليوم من الخير والشر ولو تعلمون ما أعلملضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً " فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومأشد منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين " . والخنين : هو البكاء مع غنّة .
و كان عثمان إذا وقف على قبر ؛ بكى حتى يبل لحيته ! فقيل له : تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا ؟! فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القبر أول منزلمن منازل الآخرة ، فإن نجا منه ، فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج منه ؛ فما بعدهأشد منه ! " قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت منظراً قط إلاّالقبر أفظع منه ! ".
وبكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه . فقيل له : ما يبكيك ؟! فقال : " أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ، ولكن
أبكي على بُعد سفري ،وقلة زادي ، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار ، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي!! " .
وبكى معاذ رضي الله عنه بكاء شديدا فقيل له ما يبكيك ؟ قال : لأن اللهعز وجل قبض قبضتين واحدة في الجنة والأخرى في النار ، فأنا لا أدري من أي الفريقين أكون .
وبكى الحسن فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : أخاف أن يطرحني الله غداً في النار ولا يبالي .
وعن تميم الداري رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ) [ الجاثية / 21 ] فجعل يرددها إلى الصباح ويبكي .
وكان حذيفة رضي الله عنه يبكي بكاءً شديداً ، فقيل له : ما بكاؤك ؟ فقال : لا أدري على ما أقدم ، أعلى رضا أم على سخط ؟ .
وأُتي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يوما بطعامه فقال : قتل مصعب بن عمير وكان خيراً مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة ، وقتل حمزة – أو رجل آخر – خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة ، لقد خشيت أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا ، ثم جعل يبكي .
وكان ابن مسعوديمشي فمَّر بالحدَّادين و قد أخرجوا حديداً من النار فقام ينظر إلى الحديد المنصهر ويبكي . وكأنه رضي الله عنه تذكر النار وعذاب أهلها حين رأى هذا المشهد .
وخطب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه مرة الناس بالبصرة : فذكر فيخطبته النار ، فبكى حتى سقطت دموعه على
المنبر وبكى الناس يومئذ بكاءً شديداً.
وعن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهملذكر الله ) [ الحديد / 16 ] بكى حتى يغلبه البكاء .
وقال مسروق رحمه الله : " قرأت على عائشة هذه الآية : ( فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَالسَّمُومِ ) [ الطور / 27 ] فبكت ، وقالت: " ربِّ مُنَّ وقني عذاب السموم " .
وهذا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه كان واضعاً رأسه في حجر امرأتهفبكى فبكت امرأته فقال ما يبكيك فقالت رأيتك تبكي فبكيت قال إني ذكرت قول الله عزوجل { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً } [ مريم / 71 ] فلا أدري أأنجو منه أم لا .
وعن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيِّ بن كعب : "إن الله أمرني أن أقرئك القرآن" قال أالله سماني لك ؟ قال :" نعم" ، قال : وقد ذُكرت عند رب العالمين ؟ قال : "نعم" ، فذرفت عيناه - وفي رواية : فجعل أبيٌّ يبكي-.
وقد تربى السلف الصالح على هذه المعاني العظيمة فرأينا منهم عجبا:
فهذا إسماعيل بن زكريا يروي حال حبيب بنمحمد - وكان جارا له – يقول : كنت إذا أمسيت سمعت بكاءه وإذا أصبحت سمعت بكاءه ،فأتيت أهله ، فقلت ما شأنه ؟ يبكي إذا أمسى ، ويبكي إذا أصبح ؟! قال : فقالت لي : يخاف والله إذا أمسى أن لا يصبح
و إذا أصبح أن لا يمسي .
وحين سئل عطاءالسليمي : ما هذا الحزن قال : ويحك ، الموت في عنقي ، والقبر بيتي ، وفي القيامة موقفي وعلى جسر جهنم طريقي لا أدري ما يُصنَع بي .
وكان فضالة بن صيفي كثير البكاء ، فدخل عليه رجل وهو يبكي فقال لزوجته ما شأنه ؟ قالت : زعم أنه يريد سفراً بعيداً وماله زاد .
وقرأ رجل عند عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة : ( وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ) [الفرقان : 13 ] فبكى حتى غلبه البكاء ، وعلا نشيجه ! فقام من مجلسه ، فدخل بيته ، وتفرَّق الناس .
وأخيرا فقد قال أبو سليمان رحمه الله : عوّدوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر.
من فوائد البكاء منخشية الله :
1- أنه يورث القلب رقة ولينا
2- أنه سمة من سمات الصالحين
- 3أنه صفة من صفات الخاشعين الوجلين أهل الجنة.
4- أنه طريق للفوز برضوان الله ومحبته.
وبعد فهذه مجرد إشارات لفضيلة البكاء ، و لما كان عليه القوم الصالحون الأوائل من خشية الله والبكاء من أثر هذه الخشية فهل لنا فيهم أسوة؟!.
منقول بتصرف لتعميم الفائدة
لا تنسونا بخالص دعائكم، جزاكم الله خيرا