رهان ترسيخ و تحصين السلوك المدني : مسؤولية الأسرة و المدرسة و المجتمع برمته
لا يمكن الحديث اليوم عن مقاربة تحليلية وموضوعية لواقع الإصلاح التربوي ولمجرياته الراهنة و الاستشرافية ، دونما تأكيد على عمق الروابط الطبيعية و الحتمية بين الأسرة و المدرسة كمؤسستين اجتماعيتين تقليديتين تضطلعان بمهام التنشئة الاجتماعية ، وترومان معا من خلال أدوارهما الحيوية المتقاسمة بناء الإنسان و بالتالي ترصيص بنى المجتمع ، و التصميم الاستباقي لملامح مستقبله ، مع ضمان توارث وتناقل خصوصياته الحضارية و الإنسانية .
وتنافسهما في هذه الوظيفة التربوية باقي المؤسسات الإجتماعية الحديثة : من مؤسسات للإعلام و الاتصال و التواصل ، وجمعيات مدنية ، ونوادي ومنابر فكرية وثقافية و فنية اجتماعية ورياضية سواء داخل القطاعات الحكومية أو غير الحكومية ، كمؤسسات أقطاب للإنتاج و الإشعاع و التأطير الإجتماعي في المجتمع المعاصر، و التي أصبحت تحتل مكانة متنامية في عالم التربية و التكوين بفعل توسع مد الحداثة و التجديد والانفتاح بين مختلف مكونات المجتمع المدني ، وبلورة المجتمع لتعاقدات مكثفة ومتنوعة نتيجة التطور السريع و المتلاحق لمنظومة الإعلام و التواصل ، و تطور التفاعل الفكري والثقافي الوطني و الكوني ، واكتساح العولمة بتياراتها الجارفة للمسرح العالمي ولمنظومة العلاقات فيه.
و بذلك تكون كل من الأسرة و المدرسة بوجه خاص ـ نظرا لتداخل و تقاطع وظيفتهما التربوية ـ يسعيان معا إلى تحقيق مقاصد وقواسم مشتركة ، و في طليعتهما تحصين المكتسبات الاجتماعية المتراكمة ضمانا لتناقل مقومات الحضارة الوطنية وثوابتها عن طريق بناء فكر وثقافة تربوية مدنية مسؤولة يتم ترجمها في الواقع الحياتي سلوكيا في شكل روابط و علاقات ومبادرات ومواقف وقرارات وممارسات ناضجة ومعقلنة تجاه الأفراد و الجماعات والمؤسسات . وهي مهام جسيمة تشكل مجتمعه المرآة العاكسة لمنظومة الأخلاق و القيم الشائعة في المجتمع و الدالة على مؤشرات تماسكه و صلابته ومناعته وتوازناته . و إن التداخل في وحدة هذا الرهان أمر يفرض نفسه، رغم رصد عدة تباينات في المواصفات والإطارات التربوية للمؤسستين على مستوى المقومات و الشروط المعنوية و المادية المؤطرة للتربية فيهما .
ففيما يتعلق بالفضاء التربوي للمؤسسة التعليمية، نجده يمتاز بطابعه المؤسساتي النظامي الرسمي و بالتالي تخضع الهندسة التربوية لمرافقه لتنوع أدوارها التربوية : من إدارة وقاعات للإجتماعات و الندوات ، وساحة للاستراحة ، ومجال أخضر ، و أقسام للدراسة ، ومختبرات ومخادع ، وملاعب رياضية ، وقاعات مختصة ، ونوادي تربوية ، ومسجد ، وموقف للسيارات ، ومرافق صحية ...
وتعد الحياة المدرسية في هذا الفضاء عبارة عن مجتمع صغير قائم بذاته يعج بالحركة و النشاط و التدفق و الحياة ، وتروج فيه قضايا و أنشطة وتظاهرات متنوعة ومكثفة ترنو كافة إلى تأطير المشهد التربوي و التكويني الوطني . ويسهر على تدبير شؤونه أطر متخصصة في الشأن الديداكتيكي و البيداغوجي و التدبير الإداري التربوي بشراكة مع فرقاء المحيط .
وغالبا ما يتم اختيار موقع المؤسسة التعليمية عن طواعية من طرف الأسرة ، استنادا إلى المعطى الجغرافي لمحيطها .
وتتحدد شتى مقومات الحياة المدرسية انطلاقا من النسيج التفاعلي المعرفي الفكري و التربوي، ونوعية التجاذبات الوجدانية بين المتعلم وجماعات الأنداد من جهة وبينه وبين الراشدين حوله من جهة أخرى .
كما تتحدد بداية المسار الدراسي مع المراحل الأولى للطفولة المبكرة عند النشء ، وتكون موازية لفترة التعليم الأولى كمحطة جد خاصة ومتميزة موشومة بالانتقال المفاجئ من الحضن الدافئ و اللامشروط للأسرة إلى بيئة نظامية أوسع تخضع لقوانين دقيقة ونظام حياة خاص . وقد يحتضن هذا المسار الأطفال الرضع كذلك بواسطة دور الحضانة، تحت ظروف العمل القاهرة لأوليائهم .
هذا في الحين الذي يتحدد فيه انتماء الطفل إلى أسرته في جو مطلق من التلقائية وفي منأى عن ميزة الاختيار الطواعي لذلك ، كما يشكل الفضاء الأسري النواة الاجتماعية الأولى و الوكر الدافئ للتنشئة الحياتية الأولى للطفل منذ ولادته . وتعتبر كل أسرة بيئة تربوية جد خاصة ومتفردة في خصائصها في ارتباط مع شروطها المادية والذوقية و الثقافية ومع إرثها الاجتماعي المحلي ... وتدور فيها مختلف العلاقات والروابط و التجاذبات حول رابطة القرابة الدموية بشكل أساسي .
أما فيما يخص آليات و إطارات تمرير الخطاب التربوي الرسمي في المدرسة ، فهي تتجسد من خلال المناهج الدراسية وما يدور في فلكها من: مضامين علمية ، ومقررات، وكتب مدرسية وترفيهية، ومداخل بيداغوجية ، وطرق ووسائط ديداكتيكية ، هذا بجانب وباقي أنشطتها و إشعاعاتها الموازية، ونواديها الفنية و الرياضية ...
وهو خطاب يستمد منطلقاته وتوجهاته الكبرى من فلسفة النظام التربوي العام وغاياته المثلى ، ومبادئه و أسسه ومرتكزاته ، واختياراته الإستراتيجية . وتخضع السيرورات التربوية فيه للتخطيط و الدراسة و التحليل و التجديد و التقويم، عن طريق المساءلة والتدقيق و التتبع و التصحيح باستمرار للحد من الشوائب و الاختلالات المشوشة لها والمرصودة في الواقع الميداني التعليمي . ويتم تجسير العلاقات بين شتى أطراف السلطات التربوية تحت النفوذ المباشر للوزارة الوصية مع التنسيق التام و الكامل بين مراكز القرار الوطنية ونظيرتها على المستوى الجهوي و الإقليمي و المحلي .
وتستمد المؤسسة التعليمية مشروعيتها وموضوعيتها من حيادها المعرفي / الفكري و التربوي في منأى عن أي مساومة رخيصة أو نزوعات مذهبية و إيديولوجية مخلة أو محرفة لمبادئها أو مفاهيمها أو غاياتها الاجتماعية، وتنبني قراراتها على مبدأ التوافق والمصلحة العامة المشتركة .
بينما تتحكم في مجريات التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة ، عوامل داخلية شتى كدرجة التماسك و الوعي و النضج الثقافي السائد فيها ، ومدى تشبعها بسلوكات التعايش و التفتح و الاحترام المتبادل بين أطرافها ... هذا إلى جانب عوامل أخرى خارجية مرتبطة بالبعد المادي والنظام الحياتي العام للأسر داخل محيطها المحلي المباشر وما تفرزه من مؤثرات سوسيوثقافية قوية. وهي عوامل تتحكم مجتمعه في تحديد مستوى النضج في العلاقات الأسرية تربويا ، و طبيعة طرقها ونوعية أساليبها التربوية ودرجة ضبط الآباء لمهام تأطير التنشئة الاجتماعية لأبنائهم قصد تحقيق التوازنات الاجتماعية المتوخاة .
ورغم هذه التباينات تتميز الأسرة بكونها الخلية المجتمعية الأولى المسؤولة على بناء المجتمع وتحصين تقاليده و أعرافه عن طريق توظيفها للسلطة التربوية الأبوية الطبيعية والبديهية و التي تكون موازية لأدوار الاحتضان العاطفي للأبناء وضمان نموهم السليم والمتوازن معنويا وماديا . وكثير من المرجعيات الفكرية تشيد بخصوصية دور الأم وإشعاعها العميق في نحت الصور التربوية الانطباعية العميقة الأولى عند النشء . كما أن علاقات التجاذب عموما بين أطراف الأسرة تكون أقرب منها إلى الجانب العاطفي الفطري . وتمتاز الحياة الأسرية على مستوى وتيرة انسيابها عموما بالتلقائية، وكثيرا ما تعصف بتفاعلاتها اليومية مجموعة من الأزمات وتصيبها رجات عنيفة تتجلى بالتدريج بالموازاة مع نمو الأطفال وبلوغهم سن المراهقة بشكل خاص ـ في إطار ما يصطلح عليه في بعض المرجعيات السوسيولوجية " بصراع الأجيال " ـ وهو تذبذب في العلاقات كثيرا ما يدعو الآباء إلى مراجعة الذات و أساليبهم في التربية بحثا عن المصالحة وتخليق أكبرللحياة الأسرية
ذة. فائزة السباعي
مفتشة مركزية بوزارة التربية الوطنية