ضربُ الأمثال بالحيوان في القرآن
عبد الرحمن بن جار الله العجمي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [الزمر : 27] .
المثل في القرآن هو إبراز المعنى في صورة رائعة موجزة، لها وقعها في النفس، سواء أكانت تشبيهاً أو قولاً مرسلاً([1]) .
فالتمثيل هو القالب الذي يُبرز المعاني في صورة حسِّية تستقر في الأذهان, بتشبيه الغائب بالحاضر والمعقول بالمحسوس وقياس النظير على النظير . وهو من أساليب القرآن في ضرب بيانه ونواحي إعجازه([2]). قال ابن القيِّم رحمه الله :" ضرب الأمثال في القرآن يُستفاد منه أمور التذكير والوعظ والحث والزجر والاعتبار والتقرير وتقريب المراد للعقل وتصويره في صورة المحسوس بحيث يكون نسبته للعقل كنسبة المحسوس إلى الحس . وقد تأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر على المدح والذَّم وعلى الثواب والعقاب وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره وعلى تحقيق أمر وإبطال أمر([3]) . ولو دقَّقنا وتأمَّلنا في سياق الأمثال المضروبة بالحيوان لوجدنا أنَّها من قبيل المبالغة في الاحتقار والضعف([4]) . وقد جاء اللفظ في معظمها صريحاً بلفظ المثل أو ما يدل على التشبيه، وهو ما يُعرف بالأمثال المصرِّحة([5]) .
وسأورد هنا بعد عون الله طرفاً مما ضربه الله مثلاً بالحيوان، ومما قيل في بيانها، لعلنا نستخلص ونستقي من معين آياتها ما يستقيم به أمرنا، وتصلح به أحوالنا، وعبرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السَّمع وهو شهيد . قال بعض السلف : " إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي؛ لأنَّ الله تعالى يقول : ﴿ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت :43]" ([6]) .
- مَثلُ العالِم الذي آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة :
قال تعالى : ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(176) ﴾ [الأعراف:175 – 176] .
هذا المثلُ ضربه الله عزَّ وجلَّ في رجل آتاه الله العلم والحجج والآيات، فنبذ كلَّ هذا وراء ظهره وانسلخ منه، وخلعه كما يخلع اللباس، فخرج من الحصن الحصين، وتسلَّط عليه الشيطان فصيَّره لنفسه تابعاً له ينتهي إلى أمره في معصية الله، فكان من الهالكين . ولو علم الله فيه خيراً لوفَّقه ورفع قدره في الدنيا والآخرة، ولكنه فعل ما يقتضي الخذلان بخلوده وميله إلى الأرض، فآثر لذَّتها وشهواتها على الآخرة، واتَّبع هواه ورفض طاعة الله وخالف أمره . فمثله في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها كمثل الكلب الذي يلهث في كل حال . فكل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال المرض وحال الصحة وحال الرَّي وحال العطش، فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث، فهكذا مُشبِهُهُ؛ شدَّة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهف، فإن حَملتَ عليه الموعظة والنصيحة فهو يلهف، وإن تركته ولم تعظه فهو يلهف ([7]) . قال ابن القيِّم رحمه الله : " الكلب من أخبث الحيوانات وأوضعها قدراً وأخسِّها نفساً، وهمَّته لا تتعدى بطنه، وأشدَّها شرهاً وحرصاً، ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخَطمُه في الأرض يتشمَّمُ ويستروِحُ حرصاً وشَرَهاً، ولا يزال يشُمُّ دبُرَه دون سائر أجزائه، وإذا رميت له بحجر رجع إليه ليعضَّه من فرط نَهمتِه، وهو من أمهن الحيوانات، وأحملِها للهوان وأرضاها بالدنايا..، ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثَّة وثياب دنيَّة وحال زريَّة نبَحَهُ وحمَل عليه، كأنه يتصوَّر مشاركته له ومنازعته في قولته، وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة وضع له خَطمَهُ بالأرض، وخضع له، ولم يرفع إليه رأسه .
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سرّ بديع، وهو أنَّ هذا الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه إنما كان لشدَّة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة، فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه، واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى([8]). وقد دلت الآية لمن تدبَّرها على ألا يغتر أحد بعمله ولا بعلمه، إذ لا يدري بما يُختم له . ودلت أيضاً على منع التقليد لعالم إلا بحُجَّة يُبيِّنُها، لأنَّ الله تعالى أخبر أنه أعطى هذا آياته فانسلخ منها فوجب أن يخاف مثل هذا على غيره وألا يقبل منه إلا بحُجَّة([9]).
يتبع