قال ابن الجوزي/ صيد الخاطر:
رأيت الشره في تحصيل الأشياء يفوِّت عليه الشره مقصوده، وقد رأينا من كان شرهًا في جمع المال، فحصل له الكثير منه، وهو مع ذلك حريص على الازدياد، ولو فهم، علم أن المراد من المال إنفاقه في العمر؛ فإذا أنق العمر في تحصيله، فات المقصودان جميعًا!
وكم رأينا ممن جمع المال، ولم يتمتع به، فأبقاه لغيره، وأفنى نفسه، كما قال الشاعر:
كَدُودَةِ القَزِّ ما تَبْنيهِ يَهْدِمُهَا ... وَغَيْرُهَا بِالَّذِي تَبْنِيْهِ يَنْتَفِعُ
و كذلك رأينا خلقًا كثيرًا يحرصون على جمع الكتب، فينفقون أعمارهم في كتابتها.
وكدأب أهل الحديث، ينفقون الأعمار في النسخ والسماع إلى آخر العمر، ثم ينقسمون:
فمنهم من يتشاغل بالحديث وعلمه وتصحيحه، و لعله لا يفهم جواب حادثة، و لعل عنده لحديث "أسلم سالمها الله" مائة طريق
و قد حكي لي عن بعض أصحاب الحديث أنه سمع "جزء ابن عرفة" عن مائة شيخ، وكان عنده سبعون نسخة.
و منهم من يجمع الكتب و يسمعها، و لا يدري ما فيها، لا من حيث صحتها، و لا من فهم معناها، فتراه يقول:
الكتاب الفلاني سماعي، وعندي "منه" نسخة، و الكتاب الفَلاني، و الفُلاني ... فلا يعرف علم ما عنده من حيث فهم صحيحه من سقيمه، وقد صده اشتغاله بذلك عن المهم من العلم! فهم كما قال الحطيئة.
***** للأخبار لا علم عندها ... بمثقلها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح: ما في الغرائز
ثم ترى منهم من يتصدر، "بإتقانه للرواية وحدها" ، فيمد يده إلى ما ليس من شغله؛ فإن أفتى أخطأ، وإن تكلم في الأصول خلط
و لولا أني لا أحب ذكر الناس، لذكرت من أخبار كبار علمائهم، وما خلطوا ما يعتبره به، و لكنه لا يخفى على المحقق حالهم.
فإن قال قائل: أليس في الحديث: "منهومان لا يشبعان: طالب علم وَطَالِبُ دُنْيَا"؟!
قلت: أمّا العالم، فلا أقول له: اشبع من العلم، و لا اقتصر على بعضه، بل أقول له: قدم المهم؛ فإن العاقل من قدر عمره، وعمل بمقضتاه، و إن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يبني على الأغلب، فإن وصل، فقد أعد لكل مرحلة زادًا، وإن مات قبل الوصول، فنيته تسلك به.
فإذا علم العاقل أن العمر قصير، و أن العلم كثير، فقبيح بالعاقل الطالب لكمال الفضائل أن يتشاغل مثلًا بسماع الحديث و نسخه، ليحصل كل طريق، وكل رواية، وكل غريب، وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة، خصوصًا إن تشاغل بالنسخ، ثم لا يحفظ القرآن، أو يتشاغل بعلوم القرآن، ولا يعرف الحديث، أو بالخلاف في الفقه، ولا يعرف النقل الذي عليه مدار المسألة.
فإن قال قائل: فدبر لي ما تختار لنفسك. فأقول: ذو الهمة لا يخفى من زمان الصبا، كما قال سفيان بن عيينه: قال لي أبي، وقد بلغت خمس عشرة سنة: إنه قد أنقضت عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير، تكن من أهله. فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها، و لا أميل عنها.
ثم قبل شروعي في الجواب أقول: ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من التقصير، الممكن دفعه عن النفس، فلو كانت النبوة مثلًا تأتي بكسب؛ لم يجز له أن يقنع بالولاية، أو تصور أن يكون مثلًا خليفة، لم يحسن به أن يقتنع بإمارة، و لو صح له أن يكون ملكًا، لم يرض أن يكون بشرا، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم والعمل.
و قد علم قصر العمر، وكثرة العلم: فيبتدئ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظرًا متوسطًا، لا يخفى عليه بذلك منه شيء، وإن صح له قراءة القراءات السبع، وأشياء من النحو، وكتب اللغة، وابتدأ بأصول الحديث من حيث النقل، كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث، كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك، وقد رتبت العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب.
و لينظر في التواريخ، ليعرف ما لا يستغنى عنه، كنسب الرسول صلى الله عليه وسلم و أقاربه به وأزواجه وما جرى له.
ثم ليقبل على الفقه، فلينظر في المذهب و الخلاف، و ليكن اعتماده على مسائل الخلاف، فلينظر في المسألة و ما تحتوي عليه، فيطلبه من مظانه، كتفسير آية و حديث و كلمة لغة. و يتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض، و ليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم.
فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم، فليكن من الفقه، فإنه الأنفع.
و مهما فسح له في المهل، فأمكنه تصنيف في علم، فإنه يخلف بذلك خلفه خلفًا صالحًا. مع اجتهاده في التسبب إلى اتخاذ الولد.
ثم يعلم أن الدنيا معبرة، فيلتفت إلى فهم معاملة الله عز وجل، فإن مجموع ما حصله من العلم يدله عليه.
فإذا تعرض لتحقيق معرفته، ووقف على باب معاملته،فَقَلَّ أن يقف صادق إلا ويجذب إلى مقام الولاية، ومن أريد وفق،
وإن لله عز وجل أقوامًا يتولى تربيتهم، ويبعث إليهم في زمن الطفولية مؤدبًا؟ ويسمى العقل، ومقومًا، ويقال له: الفهم، ويتولى تأديبهم وتثقيفهم، ويهيء لهم أسباب القرب منه؛ فإن لاح قاطع قطعهم عنه، حماهم منه، وإن تعرضت بهم فتنة؛ دفعها عنهم. فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ونعوذ به من خذلان لا ينفع معه اجتهاد.