أصدر المكتب الوطني للنقابة الوطنية للتعليم العالي يوم 12 مارس 2008 بلاغا يعلن فيه الدخول في إضراب وطني لمدة 48 ساعة يومي 26 ـ 27 مارس 2008 دفاعا عن الملف المطلبي ومصداقية الحوار، وكانت هذه الثمانية والأربعون ساعة معلقة منذ 27 يناير 2008 حين فوضت اللجنة الإدارية للنقابة المنعقدة بذلك التاريخ صلاحية أجرأة هذه الخطة النضالية، وظل المكتب الوطني يقدم ويؤخر مراودا لحظة تصريفها أو إعلان تنفيذها، وإنضاج شروط وقابلية الانخراط فيها من لدن قاعدة عريضة من الأساتذة الباحثين، بعد أن منيت كثير من المبادرات النضالية التي تم الإعلان عنها من الأجهزة النقابية خلال السنوات الأخيرة بكثير من اللامبالاة والفشل وعدم القبول، وكان آخرها إضراب 08 يناير 2008 الذي لم ينخرط فيه أحد على ما يبدو. وهو ما فرض على المكتب الوطني تغيير تكتيكه بهدف استرجاع ثقة القواعد واستعادة آلية الانضباط الذي كان مؤشرا للوحدة والالتفاف حول المنظمة العتيدة، وكان أولى الخطوات في هذه الاتجاه هي بعث الروح والحياة في اللجنة الوظيفية الخاصة بملف دبلوم الدراسات العليا وما يعادله ، والتي كان مسعاها الأول والأخير هو دغدغة مشاعر فئة الأساتذة الباحثين حاملي دبلوم الدراسات العليا واستدراجهم إلى اللمعة الخاطفة التي تتحدث لغة أن قضيتهم قد استعادت موقعها كقضية محورية بعد طي ملف الدكتوراه الفرنسية والمدارس العليا وما يليهما، بعد أن قدمهم المكتب الوطني قربانا لهذا الملف، وشيد على حسابهم بنود الظفر والانتصار التي رعاها في اتفاق 13 غشت 2007، وكأن المكتب الوطني بهذا يضمد جراح هذه الفئة ويصر على اعترافاته بأنه لن يؤلم أحدا غيرهم، ويضع يده على قلوبهم ليحثهم على احتمال الصدمة ويقول لهم : أنتم طيبون من أجلي.
لذلك عمد بلاغ المكتب الوطني إلى استثمار غواية الشكل في صياغته، واحتمى بطريقة خادعة على سلم مضطرب من ترتيب الأولويات والمطالب الملحة، ووضع مطلب رفع الحيف عن الأساتذة الباحثين حاملي شهادة دكتوراه السلك الثالث وما يعادلها في الخط الأمامي وفي الصف الأول من شريط وخليط أو قطيع من المطالب يكاد يشمل عشرة مطالب، تذوب تحت وطأة سيل عددها قوة المطلب وجدواه وأهميته ومعناه، أي أن الصيغة تستهدف تعويم المطلب والقضية والملف وحشره وسط ركام من مطالب أخرى متنافرة، وهذا وجه صريح من عادة الاستخفاف والتهوين والتنقيص من قيمة مطالب الأساتذة الباحثين حاملي دبلوم الدراسات العليا التي كانت لوقت قريب مطالب طائشة وغائبة. إن الطريقة التي نسج بها المطلب رقم 01 من البلاغ ماكرة وتفتح هوتها السحيقة ليضيع فيها مطلب الأساتذة الباحثين حاملي دبلوم الدراسات العليا مع نشيد القافلة الكبرى من المطالب الأخرى التي أريد لضجتها ودويها المتراكم أن يغطي المجال ويحاصر المطلب في وحشة الترتيب الأول، ليغدو ملف الأساتذة الباحثين حاملي دبلوم الدراسات العليا وما يعادله مجرد بوابة أو مفتاح إضاءة لقضايا ضيقة المجال ومحدودة الأثر من فصيلة " وضع حد لتجاوزات المسؤولين ببعض مؤسسات التعليم العالي.." أي أن ثمة سلطة إيحاء خفية تتجه إلى تقديمه كموضوع تافه غير ذي أهمية قصوى.
وسيجتاز البلاغ هذه الخطوة الخادعة نحو الملف المنسي، ليخصص المطلب رقم 02 للقضية المحورية الحقيقية التي يجلس المكتب الوطني على ضفتيها، وهي الإسراع بإصدار النصوص القانونية لنتائج اتفاق 13 غشت 2007 المشؤوم، ويظهر مدى الحظوة هنا في أن المطلب يتفرد وحده ويأخذ موقعه وحجمه الكبير والقوي في تضاريس المطالب، حيث تم توفير شروط إبراز متميز له، وظروف أمن خاص لتنزع عنه الإحساس بالخوف أو الدونية. وهكذا فإن الترتيب من حيث الشكل لا يعني إلا أن كل شيء في النهاية باق على حاله، فالمكتب الوطني يمنح لنفسه حق النظرة إلى ملف حاملي الدكتوراه الفرنسية والمدارس العليا كملف قوي وجوهري، بينما الملفات الأخرى تسبح في غابة من الأفلاك ليس بالإمكان التكهن في أي اتجاه تدور.
في كلمة واحدة فإن تقنية تقليب مواقع المطالب ووضع ملف دبلوم الدراسات العليا في وجه قاريء البلاغ لا يضيف أية دلالة جديدة أو يكشف سرا مضافا وإنما يضع خدعته في الفراغ الكبير الذي تعاني منه النقابة، والسياق يؤكد بجلاء أن المكتب الوطني لا ينظر إليه إلا نظرته الجانبية الناقصة، وهذا ما تؤكده طقوس الحفاوة التي يتوج بها المطلب رقم 02، والاعتراف بوحدانيته وقوته وحظوته التي بوأته مقعدا وحيدا، وهو ما قد يحملنا للقول إن الصياغة الشكلية عمليا تتضمن الانبهار بقوة وحضور هذا المطلب أكثر مما تسوق ظلاله نحو المطالب المتخمة بالخلط والمضللة بتعددها.
على صعيد آخر فإن بنية البلاغ تتضمن مفارقة خادعة كذلك، تغطي على رعب تناقضاته، فاتفاق 13 غشت 2007 كسر المرآة في وجه الأساتذة الباحثين حاملي دبلوم الدراسات العليا، وتنكر لدورهم وتاريخهم وباع تضحياتهم العلمية والأكاديمية والتربوية في سوق النخاسة، ووضع حدا وحلا حاسما ليتركهم في مواجهة مصيرهم، فالاتفاق المذكور لا يرمي إلا العظام في وجوههم، ولن تكون هذه الخطوة النضالية التصاعدية إلا إمعانا في إيذائهم وزرع رماح الشماتة في لحمهم كفريسة، فكيف للضحية أن تلتف حول نفسها لتطالب بتمكين الجلاد من مزيد من الولائم، والأسلحة القاتلة التي ستتقلب على نارها الهادئة؟
إن دعوة الأساتذة الباحثين حاملي د.د.ع، إلى خوض إضراب للضغط في اتجاه تفعيل وإخراج نصوص 13 غشت 2007 تعني في الحقيقة قيادتهم إلى حتفهم، إذ أن الأغلبية المسلحة بالمرارة حتى الإحباط منهم أعلنت موقفها الحاسم الرافض لبعض بنود هذا الاتفاق ، التي لا تحمل إلا رغبة مضاعفة في الإساءة إليهم وتكريس مزيد من الحيف في حقهم، في تجاوز غير مسبوق للمقتضيات التشريعية والدستورية والقانونية وانتهاك صريح للحقوق الفردية والجماعية وحقوق المواطنة، والاختيار من هنا هو دعوة إلى رقصة فظة يقاد الأساتذة الباحثون حاملو د.د.ع. للقيام بها على حافة إرادة تدميرهم والاحتفال بهم كجثث وفية أمينة تتقدم الصف في اتجاه تحطيم رغباتها وسحق مطالبها.
لذلك فإن دعوة المكتب الوطني لفكاكه من الثمانية والأربعين ساعة التي أثقلت بها اللجنة الإدارية كاهله، لا تعدو أن تكون صفيرا في الظلام، ومحاولة تلمس الطريق نحو مؤتمر يأتينا هديره من بعيد محملا باحتمالات الانهيار على وقع ما راكمته الأجهزة النقابية من نضالات ملطخة بانحدارات الأداء الضعيف وتكريس الامتيازات الفاحشة والفئوية القاتلة، التي دمرت وحدة الأساتذة الباحثين ومصيرهم المشترك. ومن ثمة فإن الأساتذة الباحثين حاملي د.د.ع. سيجنون على أنفسهم بالانخراط في هذا الإضراب الذي يخاض من أجل إخراج نصوص قانونية تضعهم أسفل السوافل وتصادر حقوقهم الأساسية كمواطنين وكباحثين. والوفاء لتضحيات هؤلاء الأساتذة في الواقع يفرض خوض الإضراب من أجل الضغط على الحكومة لسحب بعض مشاريع مراسيم 13 غشت2007 التي تم تمريرها يوم 17 يناير 2008 وتكرس حيفا غير مسبوق في حقهم، بدل اقتيادهم إلى حتفهم، ليضعوا نهايتهم بأيديهم.ولهذا فإن الانخراط في هذا الإضراب لن يكون إلا طعنة تضاف إلى الطعنات التي ما فتيء ملف الأساتذة الباحثين حاملي د.د.ع. يتلقاها في السنوات الأخيرة.