مقال أعجبني و أنقله للفائدة:
إرهاب الفكر العلماني
بداية نؤكد أنه لا يجوز الحكم على أحد من المسلمين بالتكفير والخروج من الملة، حتى إن قال أو فعل ما ظاهره الكفر؛ إلا من قِبل هيئة الإفتاء بالبلد، لا من قِبل عامة المسلمين، ويكون ذلك بعد التحقق من ثبوت الوقائع والأدلة الداعية إلى ذلك، ولأسباب ودواعٍ شتى، ليس هنا محل سردها.. ثم إن الإيمان من الأمور التي لا يعلم حقيقتها إلا الله، "وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون".
تلك مقدمة لا بد منها حتى لا يحدث لبس، أو يتفضل أحد مشكورا بالربط بين ما سأذكره من بعض صفات إخواننا الداعين إلى العلمانية، وبين آيات الله وأحكامه المستشهد بها هنا؛ ولكن...
لا أدري لماذا كلما اقتربت من العلمانيين، كلما ازددت عنهم بعداً، فعلى الرغم من أن آراءهم وأخلاقهم تتسم بالعقلانية والتسامح -في ظاهرها- ويبدون لمن لا يعرفهم متسعي الأفق، متقبلين للنقد، داعين لتعدد الآراء وقبول الآخر، إلا أني أفاجأ في كل مرة أقترب فيها منهم بتعصب في الرأي وجمود في الفكر وعدم تقبل للنقد، فلا يقبلون رأي إلا من يشايعهم، يعمّون على العامة ببريق ثقافة زائف، ومعسول كلام خادع، كما أن لهم نظرة دونية لمن يخالفهم الرأي، ودائما ما يصفون معارضيهم بصفات الهمجية والتخلف الفكري وبأنهم خفافيش الظلام، وأصحاب العقول المتحجرة.
هم يعلنون رغبتهم بفصل الدين -كنظام حكم- عن الدولة، ويزعمون أن الدين لا شأن له بالسياسة، لكني أتحدثُ معهم فأجدهم ينفرون من ذكر الدين في أي مجال، سواء في السياسة أم في غيرها، على حين تنفرج أساريرهم لذكر أعلام العلمانية أمثال جورج جاكوب أو كبار فلاسفة الوجودية الإلحادية مثل سارتر أو هيدجر؛ مما يجعلني أتذكر قولَ الله تعالى: "وإذا ذكر الله وحده؛ اشمأزت قلوب الذين لايؤمنون بالآخرة، وإذا ذكر الذين من دونه؛ إذا هم يستبشرون"..
تجد بعضهم يتميز بروح الدعابة وخفة الظل، لكن لا أدري لماذا يكون الشرع وأحكامه والمستمسكون به، هم المادة الحاضرة دائما في نكاتهم ومزاحهم، ما يذكرني بحادثة الرجل الذي استهزأ برسول الله وأصحابه، فسمعه عوف بن مالك، فغضب، وقال لأخبرن رسول الله، وذهب ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله وأمسك بزمام ناقته يعتذر ويقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. فيقول له رسول الله: "أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ" ولا يلتفت إليه.
إن الطعن في الدين مشروع عند العلمانيين بدعوى حرية الفكر، وفي كل مرة يُحظر نشر كتاب يستهزئ بالله ورسله -كما حدث مع كتاب "الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة" للكاتبة د.نوال السعداوي- تثور ثائرتهم ويتمنون لو شُنق من مَنع الكتاب أو دُفن حيا، رغم أن مثلهم الأعلى، وهم علمانيو الغرب، لديهم محرمات لا يجوز النقاش فيها أو الاقتراب منها بأي حال من الأحوال، ومنها قضية "مذابح الهوليكُست" وصحتها تاريخيا. لكن التقليد يُعمي ويصم، فهم يقتفون اثرهم ويتتبعون خطاهم، حتى لو دخلوا حجر ضَبٍ لدخلوه وراءهم.
إن تقليد الفكر غالبا ما يكون نسخة مشوهة للأصل، لذلك نجد العلمانين العرب أكثر اجتراء على دين الله، من علمانيي الغرب، وإقحاما لأنفسهم فيما يجهلون من الشرع بدعوى حرية الفكر، وقد يتطاول بعضهم بالافتراء على كتاب الله والادعاء أن به الكثير من الأخطاء اللغوية والعلمية -ولست هنا في معرض سرد دعاواهم، والرد عليها- على حين أن العلمانيين الغربيين لا يقحمون أنفسهم في أمور الدين ويرجعونها لذوي الاختصاص منهم، ويعطون لرجال الدين ما يستحقونه من الاحترام والتبجيل، ولقد شاهدنا في الفضائيات العالمية ذلك الاستقبال الرسمي والشعبي المهيب الذي اسْتُقبل به بابا الفاتيكان في أميركا.
علمانيو العرب مرضى ومهووسون بنظرة الغرب لهم، طمعاً في أن ينالوا رضاهم، ولامانع لديهم من أن يطعنوا في إخوانهم وأبناء أوطانهم -لنيل هذا الرضى- ويشككون في نواياهم وأهدافهم، فكل جمعية خيرية إسلامية، إنما هي مموِّلة للإرهاب، وكل مساعدة تقدم للآخرين إنما هي بهدف نشر الفكر المتطرف، بينما إذا قدم أحد من الغرب مساعدة للمحتاجين في مناطقنا المنكوبة، تُعمم صفات الرحمة والإنسانية من قبل العلمانيين العرب على كل من هو غربي، وتُقدم كل آيات الشكر والعرفان -ونحن لا نقلل أبدا من قدر ما تفعله المنظمات الإنسانية الغربية- لكن العلمانيين ينسون أو يتناسون حقيقة مهمة، وهي أن أصل البلاء والمعاناة التي يعانيها العرب إنما يرجع الجزء الأكبر منها إلى تدخل الغرب في حياتنا سواء بزرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة ومساندته، أو بوأد خيارات الشعوب العربية في اختيار من يحكمها، كما هو موقف فرنسا والغرب مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر في مطلع التسعينيات، وما يحدث مع حماس في فلسطين الآن.
إن العلمانيين العرب يمارسون إرهابا فكريا ضد المعارضين لهم في الفكر والمنهج، مقتدين بغيرهم من العلمانيين في تركيا وفرنسا وأميركا. إنهم يرهبوننا ويخوفوننا بتاريخ يرويه عنّا المستشرقون، ويذكرون لنا من الروايات أضعفها، ومن الأخبار ما وافق أهواءهم، يريدون أن يفقدوننا الثقة في أنفسنا وفي قدرتنا على إنجاز وتحقيق أي نجاح، يدفنون قرونا من الحضارة أضاءت البشرية، وحفظت العلم، وابتكرت الفن، واقتبس منها الآخرون وساروا على نهجها، قبل أن يتنكروا لها، ولم يكتفوا بتنكرهم بل وربوا فينا جيلا يحتقر كل ما يمت لديننا وتاريخنا وحضارتنا بصلة.
إنهم يرهبوننا بصور عن صغارٍ فرحوا بإنشاء دولة -ساهم في بنائها العلمانيون أنفسهم- وفهموا الإسلام فقط على أنه التقشف والعيش في الكهوف، ثم تخلفوا عن ركب الحضارة والإنسانية جمعاء، يقولون لنا إن هذا جزاء ومصير من يحتكم إلى شريعة الإسلام.
ليس الهدف من كلامي الحط من قدر أحد، بل هو رغبة في إبصار الحقيقة، ودعوة لإخواننا العلمانيين العرب إلى الحوار، دون شروط مسبقة، إلا شرطا واحدا، وهو عدم الجدال في آيات الله بغير علم، أو اتهام الشرع بالعجز والنقصان، وهو شرط ومبدأ لن نستطيع التنازل عنه لقول الله عز وجل:
"وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا، فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما يُنسينّك الشيطان فلا تقعدْ بعد الذكرى مع القوم الظالمين".