ابنتي : هذه رسالة من أم مسكينه كتبتها على استحياء بعد تردد وطول انتظار , أمسكت بالقلم مرات فحجزته الدمعة, وأوقفته الدمعة مرات , فجرى أنين القلب فأقرئي ما كتبت : ابنتي الحبيبة ،، بعد هذا العمر أراكِ امرأة سويه , مكتملة العقل , ومتزنة العاطفة , من حقي عليكِ أن تقرئي هذه الورقة , وان شئتِ فمزقيها , كما مزقتِ أطراف قلبي من قبل .. آه بنيتي : منذ خمسة وعشرين عاماً , كان يوماً مشرقاً في حياتي عندما أخبرتني الطبيبة أني سوف أصبح أماً , والأمهات يابنيتي يعرفن معنى هذه الكلمة جيداً , فهي مزيج من الفرح والسرور , وبداية معاناة مع التغيرات النفسية والجسمية , وبعد هذه البشرى حملتك تسعة أشهر في بطني فرحة , جذلاً أقوم متثاقلة , وأنام بصعوبة , وآكل مرغمة , وأتنفس بألم , ولكن كل ذلك لم ينقص من محبتي لكِ وفرحتي بك .. بل نمت محبتك مع الأيام وترعرع شوق إليك .. حملتك يابنيتي وهناً على وهن , وألماً على ألم , أفرح بحركتك , وأؤسر بزيادة وزنك , وهو حمل عليّ ثقيل ..آه إنها معاناة طويلة .. أتى بعدها فجر تلك الليلة.. التي لم أنم فيها , ولم يغض لي جفن , نالني من الألم والشدة والرهبة والخوف مالا يصفه القلم ولا يتحدث عنه اللسان , ورأيت بأم عيني الموت مرات عدة .. حتى خرجتي إلى الدنيا .. فامتزجت دموع صراخك بدموع فرحي وأزلت كل آلامي وجراحي .. ومرت تلك الأيام وأنا على تلك الحالة , خادمة لم تقصر , ومرضعة لم تتوقف , وعاملة لم تفتر , حتى أشتد عودك , واستقام شبابك , وبدأت تظهر عليكِ معالم الأنوثة .. وأتى موعد زفافك .. فتقطع قلبي , وجرت مدامعي فرحاً بحياتك الجديدة وحزناً على فراقك.. آه .. ومرت الأيام ثقيلة.. فإذا بكِ لستِ ابنتي التي أعرفك , لقد أنكرتني وتناسيتِ حقي , تمر الأيام لا أراكِ ولا أسمع صوتكِ , وتجاهلتِ من قامت بكِ خير قيام .. ابنتي الحبيبة .. لقد أحدودب ظهري , وارتعشت أطرافي , وأنهكتني الأمراض , وزارتني الأسقام , لا أقوم إلا بصعوبة , ولا أجلس إلا بمشقة , ولا يزال قلبي ينبض بمحبتك .. لقد خدمتكِ وقمت بأمرك سنوات وسنوات , فأين الجزاء والوفاء , إلى هذا الحد بلغت بكِ القسوة وأخذتك الأيام .. يابنيتي .. كلما علمت أنكِ سعيدة في حياتك زاد فرحي وسروري , ولكني أتعجب في صنع يدي , وأتساءل أي ذنب جنيته حتى أصبحت عدوة لكِ لا تطيقين رؤيتي , وتتثاقلين زيارتي , اجعليني من سائر خدمك الذين تعطيهم أجورهم , امنحيني جزاء من رحمتك , ومني عليّ ببعض أجري , واحسني فإن الله يحب المحسنين .. آه يابنيتي .. أتمنى رؤيتك لا أريد سوى ذلك , دعيني أرى عبوس وجهك وتقاطيع غضبك .. بنيتي .. تفطر قلبي , وسالت مدامعي , ولا يزال الناس يتحدثون عن حسن خلقك وجودك وكرمك .. بنيتي .. أما آن لقلبك أن يرق لإمرأة ضعيفة أضناها الشوق , وألزمها الحزن , جعلتِ الكمد شعارها , والغم دثرها , وأجريت لها دمعاً , وأحزنتِ منها قلباً , وقطعتِ منها رحماً .. لن أرفع الشكوى , ولن أبث الحزن , لأنها لو ارتفعت فوق الغمام.. أصابك شؤم العقوق , ونزلت بكِ العقوبة , وحلت بداركِ المصيبة , لا لن أفعل , لا تزالي يابنيتي فلذة كبدي , وريحانة حياتي , وبهجة دنياي .. أفيقي يابنيتي .. بدأ الشيب يعلو مرفقكِ , وتمر سنوات ثم تصبحين أماً .. والجزاء من جنس العمل .. وستكتبين رسائل لإبنتكِ بدموع مثل ما كتبتها إليكِ , وعند الله تجتمع الخصوم .. يابنيتي .. اتق الله في أمك , كفكفي دمعها , وخففي حزنها , وان شئتِ بعد ذلك فمزقي رسالتها واعلمي أن : (( من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ))