يوم حصلت على الباكالوريا (1)
بقلم : ذ . نورالدين مومن
كان لشهادة الباكالوريا في ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي شأن عظيم وميزة كبيرة في المجتمع المغربي.
فالناجحون كانت تقام لهم الحفلات والولائم، فتدق الطبول وتزغرد النسوة وتذبح الأضاحي وتقدم القرابين للأضرحة.
كان نيل الشهادة آنذاك يعادل وظيفة محترمة اليوم،لذا لم يكن من السهل أن تجتاز الامتحان النهائي إلا وأنت متمكن من المقرر الدراسي كاملا...لن يكون باستطاعتك النجاح إن لم تقض السنة الدراسية كلها في كد وجهد وسهر إلى مطلع الفجر..
كانت الأسر تفتخر بأبنائها في كبرياء لا يخفى في جميع المناسبات.
الآباء يقتنون الصحف الوطنية التي تنشر أسماء الناجحين يتباهون بها في المقاهي والتجمعات .
الأمهات لا حديث لهن في حفلات العقيقة والزفاف وجلسات النميمة سوى عن فلان نجح وفلان رسب وآخر صار مشروع دكتور أو أستاذ.
هكذا كانت تمر الأيام التي تعلن فيها نتائج الباكالوريا.سرور وحبور يقابله حزن وانكسار.
في ظل هذه المظاهر الممتعة ظفرت بشهادة الباكالوريا آداب عصرية بميزة مقبول.
أتذكر يوم تحلقت حول سبورة إعلان نتائج الباكالوريا. كنت أتدافع وأصدقائي كتفا بكتف في سبيل الوصول إلى لائحة الأسماء .
الهلع سيد الموقف ، فرائصي ترتعد ، وقلبي يدق في عنف ، والخوف من الفشل يطاردني.
التلميذات كن يعانين بسببنا.لم يكن باستطاعتهن الوصول إلى اللائحة.
كان ضربا من الجنون أن تصل إحداهن إلى الصفوف الأولى.فقط انسحابنا من ساحة الوغى يعطي الضوء الأخضر لهن.
ناداني صديقي إسماعيل من الجهة الأخرى: نورالدين نورالدين أبشر إن اسمك من بين الناجحين.
في ظل همهمات التلاميذ وضجيجهم لم تلتقط أذني سوى كلمة" الناجحين" بصعوبة بالغة. لذلك اقتحمت الصفوف متقدما في اندفاع وبلا ترو إلى الأمام .
أفضل طريقة لمواجهة الصعاب اقتحامها.
هكذا تعلمت من أستاذ اللغة العربية ,
هناك كان شامخا في كبرياء ،
مدون بمداد الفخر والاعتزاز ،
الذي ناضلت من أجله لاثنتي عشرة سنة خلت ،
كي أكون اليوم مرفوع الهامة أمام أقراني .
حينها اغرورقت عيناي بالدموع بشكل لا إرادي .
لا يمكن أن اصف فرحتي وابتهاجي بالنجاح ،
في تلك اللحظات اللسان يعجز عن التعبير ،
فرحتي بالنجاح لا تعادلها سوى فرحة أمي ،
أمـــــــــــــــــــــــــــــــــــي ،
المسكينة التي تكابد وتقاسي ،
المعين الذي لا ينضب، والعطاء الذي لا يجف ،
إنها تنتظرني الآن على أحر من من الجمر ،
اليوم بإمكانها أن تفـــــــــرح ،
اليوم سترى نتيجة كدها وتعبها ،
اليوم ستحتفل ستزغرد ،سترقص ،
اليوم ستقف بشموخ وكبرياء أمام ساكنة الحي ،
كنت أسرع الخطى كي أصل في اقرب وقت ممكن إلى المنزل.
لم أكبد نفسي عناء طرق الباب ،
الإحساس الذي لا يخطئ أبدا .
كانت واقفة مشرعة الباب على مصراعيها.
لم أكن بحاجة لأن أقول شيئا.
فتعابير وجهي اختصرت كل شيء.
لذا فقد احتضنتني بعفوية وحنان جارف.
درفت المسكينة الدموع مدرارا ،
حتى تخيلت بأن فصل الشتاء حل قبل موعده.
ما أغلى دموع الأم ، كنوز الدنيا لا تضاهيها .
هذا ما كانت تقوله لي دوما.
قال لي جارنا بعد أسبوع من ذلك:إن أمي ظلت رابضة أمام الباب لم تتزحزح طوال اليوم في انتظار مجيئي.
سأعوضها عما فات. لن تشقى بعد اليوم.
هكذا قطعت أول وعد على نفسي بعد الباكالوريا.
لكــــــــــــــــــــــن ...................
فأبي لم بتمكن من رؤيتي وأنا أنال شهادة الباكالوريا ،
كان أبي معتل الصحة بمرض عقلي خطير تعرض له لما كنت أدرس في السنة الخامسة من التعليم الثانوى.
لذلك فهو لم يكن يعرفني ، بل لم يكن يتعرف على أحد بالمرة .
ألفيته منزويا في ركن من أركان المنزل.
فنظر إلي في شرود وعينين ذابلتين خاليتين من حنان الأبوة.
حزن الابن الذي افتقد أباه .
بكيت بحرقة ليال متصلة ببعضها بعد نيل الشهادة .
لم تلاحظ أمي شيئا طرأ علي .
سوى عيني اللتين ضمرتا واكتستا زرقة داكنة .
قلت لأمي فيما بعد :إن ذلك نتيجة الجهد الذي بذلته طوال الموسم الدراسي .
كنت أحاول ألا أزيد من أقراحها .
تصنعت الابتسامة أمامها مرارا .
كانت في الحقيقة ابتسامة بلا معنى ،
بشوش ،مقبل على الحياة ،لا بيخل علينا بشيء .
كان صديقا وأخا لي قبل أن يكون أبا .
أما أصدقاؤه فقد كانوا يخالونني أخا له فعلا .
لم يصدقوا ذات يوم لما رأوني ألثم يديه الكريمتين.
بفضله كنت أحصل على المرتبة الأولى في اللغة العربية.
بفضله أصبحت خطاطا أتقن جميع الخطوط العربية
خط ديواني ، خط رقعي ، خط نسخي......
بفضله أصبحت موظفا محترما.
كان يملك مكتبة في تلك الفترة.عودني على القراءة منذ نعومة أظافري
في كل مساء كان يناولني قصة أو رواية.
قرأت لمشاهير الكتاب وأنا في عمر الزهور.
قرأت لنجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وحافظ إبراهيم ..... و لجرجي زيدان وشكيب ارسلان وجبران خليل جبران.......و ليفكتور هوجو واميل زولا ولامارتين وجان جاك روسو....... ونعوم تموتسكي واجاتا كريستي وغسان كنفاني وكريم غلاب...............
كنت أنهل واقطف من مكتبة والدي من هنا وهناك.
مازلت مدمنا على القراءة لحد الآن.
لا يمكنني أن أنام دون أن أتناول كتابا .
يقولون "من شب عل شيء شاب عليه" .
توفي أبي يعذ ذلك أبي بسنة ونيف رحمه الله واسكنه فسيح جناته.
مات وهو في سن السادسة والأربعين.
والدتي التي تضاعف دورها ،
فقد أصبحت تلعب دور الأم والأب معا.
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــع