أشار تودروف في أواسط السبعينيات، في السطر الأول من كتابه نقد النقد، رواية تعلم: "الفرنسيون لا يقرأون". قد يُصاب القارئ المُتسرع غير المُتدبر لسياق الكلام، بنوع من الدهشة والحيرة وهو يصادف مثل هذا القول الذي قد يخلخل لديه كل ما تراكم لديه من قناعات وتمَثُّلات ترى في الغرب نموذجا للقراءة وللترغيب فيها وتأصيلها..
غير أن سياق القول يَجْعَلُنا ندرك أن المقصود بالكلام هو كون الفرنسيين لا يقرأون الكتب النقدية.. هكذا يُرْفَعُ اللُّبس وتَتَضِّح الرؤية، ويبطُل العجب، حينما ندرك أن من يقرأون الروايات والإبداع في فرنسا كبير جدا، رغم أن وضْعَ القراءة لم يُرض تُودُروفَنَا..
نستحضر هذا الكلام-الرأي، ونحن نجد حديث المؤسسات التعليمية والآباء والمثقفين لا يخلو من شُجون عن ظاهرة الإعراض عن القراءة لدى التلاميذ بشكل يهَدد ثقافتهم ومستقبلهم العلمي.
يزداد هذا القلق، عندما نشاهد في كبريات المحلات التجارية الغربية، أطفالا في عمر الزهور، يفترشون الأرض أمام رفوف الكتب المصورة والملونة، يُقلِّبُون الصفحة تلو الصفحة، ويبحثون عن مَخَايِل مُحْتَملة لصُور قد تؤْنِسهم أو تسْتَثِير مكَامِن الغرابة لديهم. فما الفرق بين أطفالنا وأطفالهم؟
أطفالنا تُعجبهم رُفوف الحلوى والمشروبات الغازية والدِّبَبَةُ القُطبية، التي قد تفوقهم حجما، وتفوق مصْروف رب أسرة لأسبوع بكامله..
لنا اليقين بأن توصيف هذه الظاهرة يفوق قدرة هذه الورقة، وأن وضع الأقواس (..) ربما سيثير لدى قارئ مُتَتَبِّعٍ عصِّي الدَّمع، افتراضات ومُبررات وحيثيات لهذه الظاهرة، قد تُتَاخِمُ أنساقا معرفية وثقافية تحتاج إلى بحر من المداد، وإلى شرائط صوتية طويلة من الكلام.. كلام قد لا يكون بعده فعل.
الخطير في المسألة، هو أن الإعراض عن القراءة، لم يعد مقتصرا على القاصرين والقاصرات من تلاميذنا وتلميذاتنا، ولا الراشيدين والراشدات من طلابنا وطالباتنا، بل تعدى ذلك إلى من يأمرون بالقراءة، وينهون عن الخمول والكسل: أغلب أطرنا التربوية -إن لم نقل معظمها- لم تعد تتذكر من تخصصها إلا ما عَلِقَ بأهداب ذاكرتها خلال سنوات عِجافٍ قضتْهَا بالجامعة. قد يطول عمر هذه الذاكرة: قد يعود إلى بداية الثمانينيات أو أواسطها.. تغيرت نصوص المقرر بضْع مرات، ولم تتغير الذاكرة، شاب الرأس وشابت معه شهية القراءة..
لقد أصبحت جُذاذات بعضهم صفراء من كثرة الاستعمال والإعارة، يَتْرُكُها السلف للخلف، حتى بات التلميذ يسَتْسَرْعِ الأستاذ الخُطَى وهو يُمْلِي درسه، وقد يسبقه بالكلمة أو اللفظة التي ينقلها من دفتر جاهز لديه، أعاد معه السنة الدراسية، أو وَرِثَهُ عن تلميذ محظوظ انتقل إلى المرحلة الموالية.
فهل نقرأ حقا حتى نُطالب الآخرين بالقراءة؟ لا غرابة عندما يعْتَرِفُ بعضنا بأنه لا يملك في بيته مكتبة باستثناء كتب المقرر.
كيف نُجدّد مداركنا ومعارفنا، ونحن لا زلنا نرتهن إلى ذاكرة "موشومة" بمطالب الحياة المادية والسلالم والحركات؟؟
بعض أطر الإشراف التربوي بالتعليم الابتدائي لها القدرة على أن تسأل أستاذة الجبال والمسالك الوعرة والوِهَاد، عن آخر ما قرأوه من أعمال أدبية أو فنية أو أخرى.. قد يجد بعضهم حرجا في الإجابة عن سؤال من هذا القبيل؛ في الوقت الذي يجد فيه آخرون تعالما ما يجب أن يُقْتَرَفَ في حق من "كاد أن يكون رسولا"..
هكذا يجيب أحدهم: قرأت البارحة مذكرة الحركة الانتقالية، كي ألتحق بزوجتي..
ويعلِّق آخر أدْرَكه الصباح مع قنديل زيت: قرأت دور الكهرباء في التنمية القروية..
ويعود المشرف إلى طاولته لا شيء معه إلا كلمات .. كلمات ليست كالكلمات..
أمَّا من أُذِنَ لهم يوم وِلادتٍهم في آذانهم أن وَاسِطَة ستِنَقِّلُهُم إلى وسط المدينة، فيبقون في مقاهيها، يعَلِّقون على كلام وزير، وينتقدون النَّقابات والأحزاب.. مثلما ينتقدون تردِّي مستوى التعليم، ومذياع المقهى يصيح: "هل رأى الحب سكارى مثلنا؟"