جزاك الله خيرا و كتب لك الأجر
========================
كلُّ عَمَلٍ أَصله ثَابِتٌ شَرْعًا، إِلا أَن فِي إِظهار الْعَمَلِ بِهِ والمُدَاومة عَلَيْهِ مَا يُخاف أَن يُعتقد أَنه سُنَّةٌ، فَتَرْكُهُ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ
....أَما الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَن يَصِيرَ الوَصْف عُرْضَةً لِأَنْ يَنْضَمَّ إِلى الْعِبَادَةِ حَتَّى يُعتقد فِيهِ أَنه مِنْ أَوصافها أَو جزءٌ مِنْهَا ـ: فَهَذَا الْقِسْمُ يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ النَّهْيِ عَنِ الذَّرائع، وَهُوَ وإِن كَانَ فِي الْجُمْلَةِ مُتَّفِقًا عَلَيْهِ، فَفِيهِ فِي التَّفْصِيلِ نِزَاعٌ بَيْنَ العلماءِ؛ إِذ لَيْسَ كُلُّ ما هو ذَريعة إِلى ممنوع يُمْنَع،بدليل الخلاف الواقع في أَصل بُيُوعِ الْآجَالِ، وَمَا كَانَ نَحْوَهَا،
غَيْرَ أَن أَبا بَكْرٍ الطَّرْطُوشي يَحْكِي الِاتِّفَاقَ فِي هَذَا النَّوْعِ اسْتِقْرَاءً مِنْ مَسَائِلَ وَقَعَتْ لِلْعُلَمَاءِ مَنَعُوهَا سَدًا لِلذَّرِيعَةِ، وإِذا ثَبَتَ الْخِلَافُ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ لَمْ يُنْكَر أَن يَقُولَ بِهِ قَائِلٌ فِي بَعْضِ مَا نَحْنُ فِيهِ، ولنُمَثِّله أَوَّلاً، ثُمَّ نَتَكَلَّمْ عَلَى حُكْمِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ.
فَمِنْ ذلك: ما جاءَ في الحديث مِنْ نَهي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يُتَقَدَّم شهرُ رَمَضَانَ بِصِيَامِ يَوْمٍ أَو يومين . ووجه ذَلِكَ عِنْدَ العلماءِ: مَخَافةَ أَن يُعَدَّ ذَلِكَ مِنْ جُملة رَمَضَانَ.
وَمِنْهُ: مَا ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنه كان لا يقصر في السفر ، فيقال له: أَلست قَصَرْتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فَيَقُولُ: بَلَى! وَلَكِنِّي إِمام النَّاسِ، فيَنْظر إِليَّ الأَعرابُ وأَهل الْبَادِيَةِ أُصلي رَكْعَتَيْنِ، فَيَقُولُونَ: هكذا فُرِضَت فَالْقَصْرُ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ أَو وَاجِبٌ، وَمَعَ ذلك تَرَكَه خوفاً أَن يُتَذرَّعَ بِهِ لأَمرٍ حادثٍ فِي الدِّينِ غير مشروع.
ومنه قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غَسْله الاحتلام من ثوبه حَتَّى أَسفر ، وَقَوْلُهُ لِمَنْ رَاجَعَهُ فِي ذَلِكَ، وأَن يَأْخُذَ مِنْ أَثْوَابِهِمْ مَا يُصَلِّي بِهِ، ثُمَّ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ عَلَى السِّعَةِ: لَوْ فعلتُه لَكَانَتْ سُنَّة، بَلْ أَغْسِلُ مَا رأَيت، وأَنْضَحُ مالم أَرَ
وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ أَسيد: شَهِدْتُ أَبا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَا لَا يُضَحِّيَان؛ مَخَافَةَ أَن يُرَى أَنها وَاجِبَةٌ
وَنَحْوُ ذَلِكَ عن [أبي] مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِني لأَترك أُضحيتي ـ وإِني لمن أَيْسَرِكم ـ مخافة أَن يَظُنّ الجيران أَنها واجبة
وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ.
وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ إِتْباعَ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَوَافَقَهُ أَبو حَنِيفَةَ، فَقَالَ: لَا أَستحبها، مَعَ مَا جاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وأَخبر مَالِكٌ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُقتدى بِهِ : أَنهم كَانُوا لَا يَصُومُونَهَا وَيَخَافُونَ بِدَعَتَهَا.
وَمِنْهُ: ما تقدم في اتباع الآثار ؛ كمجيءِ "قباء" ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فكلُّ عَمَلٍ أَصله ثَابِتٌ شَرْعًا، إِلا أَن فِي إِظهار الْعَمَلِ بِهِ والمُدَاومة عَلَيْهِ مَا يُخاف أَن يُعتقد أَنه سُنَّةٌ، فَتَرْكُهُ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ أَيضاً، مِنْ بَابِ سَدّ الذَّرائع، وَلِذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ دعاءَ التوجُّه بَعْدَ الإِحرام، وَقَبْلَ القراءَة ، وَكَرِهَ غَسْلَ اليد قبل الطعام ، وأَنكر على مَنْ جَعَلَ ثَوْبَهُ فِي الْمَسْجِدِ أَمامه فِي الصف
الاعْتِصَام/ بالشاطبي (المتوفى: 790هـ)