أما الداء الذي نحن بصدده فهو عام وشائع ولا يكاد يخلو منه مسلم في هذا العالم فضلا عن غير المسلمين , وأما الدواء والعلاج فقد تخبط الكثير من مفكري وفلاسفة الغرب والشرق من غير المسلمين في البحث عنه , دون أن يصلوا بعد طول جهد وعناء إلى نتيجة إيجابية تخفف عنهم الهموم وحالات الاكتئاب والقلق الذي يجتاح الكثير من النفوس والأفئدة فيها .
وعلى الرغم من أن دين الله الخاتم قد وفَّر على أتباعه مشقة البحث وعناء التيه في تفاصيل نظريات غير المسلمين التي ما زالت حتى الآن - ورغم كل التطور التقني والعلمي الذي وصلت إليه - تتعثر في بحثها عن العلاج الناجع لإزالة الهموم .....إلا أن الكثير من المسلمين ما زالوا – وللأسف الشديد – إما جاهلين بأبجديات العلاج النبوي للهموم رغم حاجتهم الماسة إليه في زمن تزاحمت فيه أنواع الهموم على القلوب , وإما متكاسلين عن العمل بهذا العلاج رغم علمهم به ويقينهم بجدواه .
ولعل سلوك بعض المسلمين حين تتكاثر عليهم الهموم والأكدار هو ما يشير إلى إعراضهم وعدم التزامهم بالعلاج النبوي لما هم فيه , فترى أحدهم يخرج إلى المنتزهات والمطاعم في أوقات تزاحم هموم الحياة عليه , ظنا منه أن ذلك يزيل عنه ثقلها ويبعد عنه كدرها , بينما قد يسافر البعض الآخر للسياحة في مكان قد لا تكون فيه أي مراعاة لحرمات الله , فيعود من سفره بأضعاف ما حمل من هموم وأحزان .
إنها النظرة المادية التي يتبعها الغرب في حل وعلاج كل أمراضه وأزماته , والتي لم تزده في مجال الأمراض النفسية التي يعاني منها أفراده عموما إلا خسارا وانتكاسا , ليأتي المسلم الذي أكرمه الله تعالى بأفضل وأنجع علاج لهذا الداء العضال , ليجرب تخرصات ونظريات الغرب في هذا المجال , في ظاهرة تبدو من أكثر الظواهر غرابة وعجبا .
لا شك أن القرآن الكريم قد تضمن علاجا ناجعا للهموم وتزايد الأحزان , ولعل ذكر الله تعالى هو العلاج القرآني الأبرز لهذا الداء , قال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } الرعد/28 , إلا أني أريد التركيز هنا على العلاج النبوي للهموم , والذي لا يخرج بطبيعة الحال عن منهج القرآن .
لقد بحثت في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علاج الهموم التي لا يكاد يخلو منها إنسان في هذه الحياة , فوجدت أن أكثر من حديث نبوي تناول هذه المسألة , وأنها بمجموعها تشكل منظومة للعلاج متكاملة .
أول هذه الأحاديث هو حديث عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من جعل الهموم هما واحدا هم آخرته كفاه الله هم دنياه ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك ) صحيح ابن ماجة للألباني برقم253 .
وفي رواية المستدرك للحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من جعل الهموم هما واحدا كفاه الله هم دنياه و من تشعبت به الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك ) رقم/3658 وقال الذهبي في التلخيص : صحيح .
وتكمن أهمية هذا الحديث في علاج الهموم في أنه يركز على توصيف المرض وأبرز أسبابه , ألا وهو نسيان الدار الآخرة والإسراف في الانغماس بشؤون الدنيا الزائلة , الأمر الذي يتسبب في تضخيم أمور الأخيرة وإخراجها عن إطارها الحقيقي المرحلي , وهو ما يؤدي إلى تزايد الهموم تبعا لإعطاء الدنيا أكبر من حجمها الطبيعي .
ويأتي العلاج النبوي في الحديث منسجما مع سبب الداء , وذلك من خلال التأكيد على حقيقة الحقائق وأم البدهيات في هذه الحياة , ألا وهي أن الدنيا ليست آخر المطاف , بل هي مجرد مرحلة للوصول إلى الدار الآخرة , فمن ركز اهتمامه بأمر آخرته وجعلها مهيمنة على جميع شؤون حياته , هانت عليه هموم الدنيا وأحزانها وأكدارها , بل إن الله سيكفيه هذه الهموم ويزيل عنه تلك الكروب , ومن غفل عن الآخرة بزخرف الدنيا ومتاعها انتهشته همومها واستهلكته أعباؤها وتكاليفها .
لا يعني هذا الكلام أن يهمل المسلم الدنيا أو لا يعمل فيها بما يصلح شأنه , فكتاب الله واضح بهذا الخصوص : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا .....} القصص/77 , وغاية ما في يرشد إليه الحديث أن لا ينهمك المسلم بدنياه إلى درجة تنسيه آخرته , الأمر الذي لا تقتصر عواقبه على خسارة حياته الحقيقة الأخرى , بل وتنغيص حياته الدنيا بكثرة همومها وأحزانها .
أما الحديث الثاني فهو عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك منها ؟ قال : ( ما شئت ) قال : الربع ؟ قال : ( ما شئت و إن زدت فهو خير لك ) قال : النصف ؟ قال : ( ما شئت و إن زدت فهو خير لك ) قال : الثلثين ؟ قال : ( ما شئت و إن زدت فهو خير ) قال : يا رسول الله اجعلها كلها لك قال : ( إذا تكفي همك و يغفر لك ذنبك ) . المستدرك لحاكم برقم3578 وقال الذهبي في التلخيص : صحيح .
والعلاج النبوي في الحديث واضح كل الوضوح , فقد جعل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم سببا من أسباب زوال الهم ومغفرة الذنب , وهو في الحقيقة علاج في غاية السهولة وفي متناول كل مسلم للتخلص من الهموم والأحزان , ولا يحتاج منه إلا إلى التزام ومواظبة .
فهو وإن كان ضعيفا كما ذكر الإمام الألباني , إلا أنه يمكن الاستئناس به في هذا السياق , خصوصا إذا لاحظنا أن الذكر الوارد فيه والذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أمامة صحيح , فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّه كان يسمع النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا يَقُولُ : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ ....) برقم/2893 .
ولعل أهم ما يرشدنا إليه الحديث كعلاج للهم أمران :
أولهما : التوجه الصحيح نحو من بيده إزالة الهموم عند تكاثرها وتفريج الكروب عند نزولها على المسلم , ألا وهو الله وحده سبحانه , وهو ما فعله الصحابي الجليل أبو أمامة رضي الله عنه .
وثانيها : الالتزام بالأدعية والأذكار الصحيحة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع , ومنها هذا الذكر : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ ) .
إن من أمنِّ نعم الله على عباده التي تستحق منهم شكرا موصولا غير منقطع هي نعمة هذا الدين الحنيف , فبينما يتخبط الشرق والغرب من غير المسلمين منذ عقود في محاولة إزالة هموم أبنائهم التي تتسبب سنويا في انتحار الكثير منهم , يقدم الإسلام لأتباعه علاج الهموم والأحزان على طبق من ذهب كلام النبوة .