في قلب المدينة القديمة تشتعل الزحمة و تعج الأزقة بالأجساد الملونة كالفراشات, يعلو الصراخ شيئا فشيئا و يبدأ الكرنفال اليومي بعروضه المألوفة, هنا تتشابه الوجوه و الكلمات, و تطفو أحيانا فوق سطحها بعض اللعنات و بعض اللكمات, تشعر و كأنك وسط قبيلة من الغجر. ينساب العرق من تلك الأجسام المتموجة و تمتزج رائحته العطنة مع رائحة البحر و الأرض, حتما ستشعر بالغثيان عندما تقتحم هذا العالم لأول مرة
طبعا لم اصب بالغثيان لأني قريب المنشأ من ذا المكان, هنا ولدت و هناك أدفن و من هناك حتما أبعث ما دامت جمهورية أفلاطون الحبل السري الذي يربط الحكام بالمحكومين.
اخترت ذلك الركن المعهود, حيت منه ترى الناس بعين أخرى بغير التي تراها و أنت وسط الزحمة, من هنا يمكنك أن ترى يد حسون تسلل خفية إلى السلال و الصناديق و تارة أخرى إلى بعض الجيوب اللاهثة وراء اللحم المتحرك تحت الزجاج الشفاف.
من هنا تستطيع أن ترى الجزار الذي ينقص من اللحم بعد وزنه أمام زبونه, و يقسم الماكر لضحيته بعد ذلك بأغلظ الأيمان أنه أعطاه أكثر مما يستحق.
وغير بعيد عنه يشدك منظر مثير ينسيك لسعات الشمس, و كيف تشعر بها و أنت تتابع خلف صناديق الخضار الفارغة, تلك القبلات الحارة التي كان الخضار حمدان يمطرها على خدود السعدية بائعة النعناع, التي أضحى بطنها المنتفخ حكاية كل لسان في السوق.
فجأة يعلو صراخ في أطراف السوق "حريق حريق"و في سرعة البرق اختلط الحابل بالنابل و اندفع الناس نحو بوابة السوق الواسعة, لا يلوون على شيء, و لا يحملون إلا قلوبهم الخافقة, تاركين وراء ظهورهم شقاء السنين لا يطلبون سوى النجاة من حريق لم يعرف أحد من أين ابتدأ و لا أين ينتهي به المطاف.
اجتمعوا هناك بعيدا عن الحريق مذهولين من هول الكارثة ترى الدموع الواكفة تتساقط على الخدود الكبيرة و الصغيرة الندية و الخشنة, و همس هنا و هناك و كأنهم يشيعون جنازة أم أيتام حنون.
لما التهمت النار أخر قصبة في السوق حينها فقط سمعت صفارة المطافئ ليطفئو جمرا خامدا تحت الرماد.
بعد دقائق معدودة عادت السيارات الحمراء و البيضاء إلى أسرتها تاركة وراءها جمرا آخر يحمر بنار الغضب.
و في هذا المشهد المريع أخذ المجنون خبيزة يصيح قائلا " إنه الطاعون القادم من الغرب يا غجر".