المقاطعة.. بين عصر الرومان وعصر كوكا كولا
ألوان من المقاطعة عبر تاريخ العالم الغربي
ليست "المقاطعة" ابتكارا حديثا، ولا هي وسيلة دعا إليها المسلمون حديثا نتيجة غضب عارم، سواء بسبب أحداث مأساوية يعايشونها ولا يملكون في الظروف القاهرة التي يعيشون تحت وطأتها، أن يساهموا بأساليب أخرى في توجيه مجراها، وصناعة القرار على صعيدها، أو بسبب إساءات يتطاول أصحابها على المقدسات ولا تجد رادعا على الصعيد الرسمي أو محاسبة فعالة على الصعيد القانوني.
وليس مجهولا في التاريخ الإسلامي أن أول مقاطعة عرفها المسلمون كانوا فيها هم "الضحية المستهدفة" وليس الطرف الذي يتعامل بهذا الأسلوب مع العدو، كما هو معروف من كتب السيرة عندما وجد المسلمون أنفسهم مستهدفين بمقاطعة قريش في أحد شعاب مكة لمدة ثلاث سنوات، مما شمل التعامل التجاري بيعا وشراء والاجتماعي مصاهرة وحتى الجغرافي حصارا.
ولادة مصطلح
من العسير التثبت من تاريخ أول مقاطعة عرفتها البشرية، بغض النظر عن استخدام مصطلح "المقاطعة" في الأدبيات التاريخية وسواها، وتوجد روايات عديدة لعل أشهرها ما اتخذ صبغة مقاطعة "سياسية تشريعية" في القرن الأول قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وتحكي الرواية عن صراع سياسي في مجلس الشيوخ الروماني، كان أحد أطرافه رجلا سياسيا وقائدا عسكريا حمل اسم نوميديكوس (Quintus Caecilius Metellus Numidicus) وقد لجأ إلى مقاطعة مشاريع القوانين التي كان يتقدم بها غريمه في المجلس بغض النظر عن محتواها، وأخفق في تحقيق هدفه فكان مصيره في نهاية المطاف النفي إلى جزيرة رودوس.
أما مصطلح "المقاطعة" في اللغات الغربية فقد ظهر بالإنجليزية لأول مرة عام 1880م، وكان ذلك في إيرلندا في إطار الصراع الذي دار لمدة أربعة قرون بين الكاثوليك والبروتستانت، ففي منطقة (Lough Mask) تداعى الفلاحون الكاثوليك في صراعهم ضد الإقطاعيين من البروتستانت المدعومين من جانب الإنجليز، إلى مقاطعة المسؤول الإنجليزي الذي عينه الإقطاعي (Earl of Earn) لإدارة ضياعه وحقوله، فامتنعوا عن تسديد أجورها له، فدخل معهم في معركة اقتصادية خاسرة رغم استعانته بالجيش الإنجليزي، وجلبه عمالا من "البروتستانت"، فقد اتسع نطاق المقاطعة ليشمل مختلف أشكال التعامل معه، عملا وبيعا وشراء ونقلا للمواشي، ووجد الفلاحون التأييد من جانب "الرابطة الريفية الإيرلندية" التي أصدرت يوم 13/11/1880م بيانا ورد في نصه (وربما في مقالة صحفية عنه) لأول مرة تعبير "يقاطع" بالإنجليزية (Boycott) اشتقاقا من اسم المسؤول الإداري الإنجليزي المستهدف، وكان يدعى (Charles Cunningham Boycott). ومع مرور الزمن تحوّل هذا التعبير إلى مصطلح لوصف فعاليات المقاطعة، الاقتصادية تجاه السلع أو الشركات، والاجتماعية في بعض الميادين كالصراع على أجور العمال، والسياسية في صيغة مقاطعة بعض الدول.
سلاح المقاطعة في المقاومة.. أمريكي المولد
واضح إذن أن المقاطعة الرسمية العربية ضد "إسرائيل" والشركات الغربية المتعاملة معها بعد حرب النكبة الأولى لم تكن أول مقاطعة اقتصادية حديثة لأسباب سياسية، وهذا ما يسري على مقاطعة الغرب نفطيا عام 1973م، مثلما يسري أيضا على دعوات المقاطعة الشعبية الحالية لسلع بعض البلدان الغربية كأداة من أدوات المقاومة، بعد أن اهترأ سلاح المقاطعة الرسمية لأسباب معروفة مرفوضة.
وقد اشتهرت في التاريخ الحديث مقاطعة الهنود للسلع البريطانية في إطار المقاومة السلمية التي تبناها غاندي نهجا لمواجهة الاحتلال المتفوق بقوته العسكرية، ونجحت في تحقيق أهدافها إلى حد بعيد، كما اشتهرت مقاطعة الغرب بزعامته الأمريكية للصين الشعبية لمدة 25 عاما وأخفقت تلك المقاطعة التي لم تستهدف "مقاومة" خطر قدر ما استهدفت ممارسة الحصار والضغوط، ولا تزال المقاطعة الأمريكية لكوبا قائمة منذ أكثر من أربعة عقود.
الأمريكيون الذين مارس ساستهم مختلف ألوان الضغوط للتخلص من المقاطعة الرسمية العربية لكل ما هو إسرائيلي وللشركات المتعاملة مع الإسرائيليين، كانوا أسبق من الشعوب الأخرى في ممارسة المقاطعة سلاحا للمقاومة، ففي فترة ما يعرف بحرب الاستقلال الأمريكية (1775-1783م) ضد المستعمر البريطاني كان استخدام سلاح مقاطعة البضائع البريطانية أمرا طبيعيا مطلوبا وفعالا، بل كانت المقاطعة الأولى (1770م) هي البداية لنشر المقاومة، ثم كانت المقاطعة الأوسع -بعد نجاح التجربة الأولى- بمشاركة 13 ولاية أمريكية في تشرين أول/ أكتوبر 1774م، وانطوت على رفض جميع أشكال التعامل التجاري مع المستعمرين البريطانيين، وبعد سبعة شهور اندلعت المواجهات العسكرية المباشرة.
وفي إطار الكفاح الطويل ضد التمييز العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية اشتهرت مقاطعة "الحافلات/ الباصات" لمدة 381 يوما، وقد بدأت في 5/12/1955م، بدعوة من "المجلس النسائي السياسي/Women's Political Council " يوم محاكمة امرأة اعتقلت قبل خمسة أيام بسبب رفضها إخلاء مكانها في إحدى الحافلات لراكب من البيض، وكانت الاستجابة للدعوة بنسبة 100 في المائة، وخسرت الجهات الرسمية التي كانت تمارس الفصل العنصري في الحافلات والمطاعم والمدارس وسواها تلك المعركة.
ألوان حديثة من المقاطعة
وعرفت البلدان الأوروبية في التاريخ الحديث أشكالا وممارسات عديدة للمقاطعة، مثل المقاطعة التي بدأت بها الروابط النسائية البروتستانتية للفاكهة المستوردة من جنوب إفريقية في حقبة حكم التمييز العنصري فيها، وكذلك الدعوات إلى مقاطعة شركة شِل النفطية عندما قررت عام 1995م التخلص من ناقلة (Brent Spar) بإغراقها في مياه المحيط، وشبيه ذلك دعوات أخرى في ألمانيا إلى مقاطعة مصنوعات شركات (AEG) عام 2006م، و(Nokia) عام 2008م بسبب سياساتهما تجاه العمال. ومنذ فترة يدعو أنصار التخلص من مصانع الطاقة النووية إلى مقاطعة شركات زيمنس، الأشهر من بين الشركات التي تصنّعها، كما توجد ألوان أخرى من المقاطعة الشعبية لأسباب محددة، مثل مقاطعة الطلبة تسديد رسوم الدراسة الجامعية المفروضة حديثا، والدعوة الشعبية إلى مقاطعة تسديد رسوم التلفزة والإذاعة التابعة للقطاع العام.
ومن الدعوات المنتشرة حاليا للمقاطعة دعوات تتبناها روابط كنسية وأسروية في الولايات المتحدة الأمريكية، محورها الرئيسي تنظيم مقاطعة الشركات التي تساهم في تقويض القيم الخلقية والاجتماعية، لا سيما فيما يتعلق بالعلاقات بين الجنسين، أشهرها الرابطة الوطنية الإنجيلية (National Association of Evangelicals) التي تضم 150 ألف عضو، ورابطة الأسرة الأمريكية (American Family Association).
أمريكيون: قاطعوا كوكا كولا
شركة كوكا كولا التي انتشرت الدعوة إلى مقاطعتها في البلدان الإسلامية أكثر من سواها باعتبارها من الرموز الاقتصادية الأمريكية، في مقدمة الشركات التي تواجه حملات المقاطعة باستمرار ولأسباب عديدة، عالميا وفي الولايات المتحدة الأمريكية، ففي الهند مثلا كان تلويثها للبيئة ورفضها تلبية المطالب بالتوقف عن ذلك من أسباب مقاطعتها ثم حظرها رسميا بين عامي 1970 و1993م، وانتشرت دعوة مشابهة لمقاطعتها في ألمانيا خلال تلك الفترة للسبب نفسه، ولا تزال مشروباتها حتى الآن محظورة في الفعاليات والأنشطة التي تمارسها جهات عديدة، مثل الرابطة الكشفية الألمانية، كما أن مشروبات كوكا كولا محظورة في كوبا وكوريا الشمالية وميانمار، هذا علاوة على سلسلة من الدعوات للامتناع عن تعاطيها لأسباب صحية وفق دراسات عديدة، منها ما يربط بينها وبين الإصابة بمرض السكر (صدرت في ذلك دراسات أمريكية عديدة وكتاب على الأقل بالألمانية)، ومنها ما يشير إلى عنصر الإدمان عليها ويعيده إلى استمرار استخدام مادة "الكوكائين" بكمية ضئيلة في صناعة نكهتها، وعدم اقتصارها على مادة كوفيئين المعروفة في مشروب القهوة، كما تذكر بعض المصادر (مثل موسوعة ويكيبيديا الشعبية) أنها تحتوي على الكحول بكمية ضئيلة.
وتجددت حملات المقاطعة عالميا ضد الشركة ومشروباتها مع بداية الألفية الثالثة للميلاد، ولعل أكبرها "حملة الجامعات الأمريكية"، التي تُشَبّه بحركة "الثورة الطلابية" في مطلع السبعينات من القرن الميلادي العشرين، وقد بدأت على صعيد الطلبة بمشاركة عشرات الألوف، حتى ألغت عشرة جامعات عقودا لطلبات شراء المشروب بقيمة ملايين الدولارات، وبلغت الحملة ذروتها في مطلع عام 2006م عندما حظرت الجامعات بيع المشروبات في منشآتها وعللت ذلك رسميا بانتهاك الشركة لحقوق الإنسان لا سيما في كولومبيا، وتلويث البيئة لا سيما في الهند.
واتهمت فعاليات الطلبة ومنظمات عديدة لحقوق الإنسان شركة كوكا كولا بارتكاب جرائم القتل بحق سبعة نقابيين في كولومبيا على الأقل، ورفعت دعوات مقاطعتها شعار "كوكا القاتلة/ Murder Coca) ولا تزال الحملة مستمرة، كما يؤخذ من فعاليات متفرقة ضد الشركة في مدينة كيل شمال ألمانيا آخر عام 2008م، ووصلت أصداؤها إلى الجامعات الأوروبية لا سيما في بريطانيا، وتركت آثارها عالميا حيثما ظهر اسم الشركة دعائيا، كما كان في عدد من المهرجانات العالمية لسباق السيارات ولكرة القدم، فضلا عما لا يمكن حصره على المستويات الفردية، فلم يعد نادرا أن يكون المشروب محظورا في عدد من المقاهي والمطاعم كما في برلين وميونيخ بألمانيا.
نبيل شبيب