الحكامة الجيدة: بين التنظير والتنزيل
*مصطفى بتي*
الحكامة مفهوم شاسع وواسع التداول في خطابات الفاعلين السياسيين، تم توظيفه داخل العديد من المجالات والأنشطة الإنسانية بما في ذلك مجال التربية والتكوين، فهي تعني تدخل أطراف أخرى إلى جانب الدولة من أجل تسيير وتنظيم الشأن العام، مع احتفاظ الدولة بحقها في المتابعة والمحاسبة والتقويم. وترتبط الحكامة كقيمة بمجموعة من القيم التربوية والمهنية كالتعاقد والاستقلالية والشراكة...
ففي ظل الدينامية الإصلاحية التي تشهدها منظومة التربية والتكوين بالمغرب، تم التركيز على مفهوم الحكامة الجيدة كقيمة من جهة وكآلية لتدبير الشأن العام من جهة أخرى، إذ أرسى الميثاق الوطني للتربية والتكوين أسس الحكامة الجيدة، لاسيما في المجال الخامس المتعلق بالتسيير والتدبير والمجال السادس الخاص بالشراكة والتمويل. فرغم عدم الإشارة إلى مفهوم الحكامة بالتسمية، فإن الميثاق وضع محددات تشير بشكل واضح للمدلول العام للحكامة الجيدة، حيث تحدث عن تسريع بلورة نهج اللامركزية واللاتمركز، باعتباره اختيارا حاسما واستراتيجية ومسؤولية عاجلة، كما أشار إلى هيئات متخصصة في التخطيط والتسيير والمراقبة في مجال التربية والتكوين على المستوى الجهوي والإقليمي والمحلي، بغية إعطاء اللامركزية واللاتركيز أقصى أبعادهما الممكنة.
في حين يرى المجلس الأعلى للتعليم، في تقريره، أن مسالة الحكامة تقع في مفترق الطرق بين علوم التسيير والإدارة وسوسيولوجيا التربية والعلوم السياسية، غير أنه يجب أن تتلاءم نماذج الحكامة التربوية مع المعطيات التاريخية والسياق السوسيوثقافي والسياسي لكل بلد. فبموجب الحكامة، أصبح التركيز على ما هو محلي وإقليمي وجهوي وليس ما هو وطني، وإذا كانت الدولة ستتخلى عن بعض اختصاصاتها للمؤسسات اللاممركزة، لتستفيد هذه الأخيرة من استقلالية واسعة، فإنها- أي المؤسسات- ستبقى خاضعة للمساءلة والمحاسبة والتقويم من طرف القطاعات الحكومية الوصية والجهات المعنية.
بعد الرجة القوية التي أحدثها تقرير المجلس الأعلى للتعليم، فطن المسؤولون عن الحقل التربوي إلى كون نقطة الضعف الأساسية في إصلاح المنظومة هي افتقارها إلى الحكامة الجيدة، فتبنوا برنامجا ذي طابع" استعجالي" يتغيى نهجا جديدا للحكامة يستدرك به ما فات ويحاول أن يعيد للمنظومة التربوية مكانتها الريادية. حيث يرتكز منظوره للحكامة الجيدة على المقاربة بالمشاريع كمدخل للتدبير بالنتائج والمقاربة التشاركية الفعلية، وقد حدد البرنامج الاستعجالي شرطين أساسيين لحكامة جيدة لإنجاح الإصلاح: ويتعلق الأمر بالتغيير العميق لأساليب التدبير، من قبيل عدم إحداث قطيعة بين مختلف مستويات التدبير(الإدارة المركزية، الأكاديميات، الجامعات، النيابات والمؤسسات التعليمية)، بالإضافة إلى وضع مؤشرات تتيح إمكانية التتبع لعمليات الإنجاز.
إن المتتبع لواقع الممارسة في الإدارات والمؤسسات التعليمية باختلاف مستوياتها، يمكنه ملاحظة الأشواط المهمة والتدابير المتخذة من أجل إرساء دعائم حكامة جيدة، إلا أن هذه الحكامة لازالت مترددة، ولم ترق إلى مستوى ما نص عليه كل من الميثاق الوطني للتربية والتكوين وتقرير المجلس الأعلى للتعليم والبرنامج الاستعجالي حول دور الحكامة في تطوير المنظومة التربوية وإصلاحها.
فعلى الرغم من دعوة الميثاق إلى اعتماد اللامركزية في ميدان التربية والتكوين بوصفها نهجا قائما على تدبير القرب لمنظومة معقدة، إلا أن هذا النهج اقتصر على تفعيل اللاتمركز في اتجاه تخفيف أعباء الإدارة المركزية. وماتزال هناك عدة عوائق تحد من تطبيق الحكامة الجيدة لتحسين هذه المنظومة، فتبني هذا النموذج الجديد للحكامة، والمتمثل في تخويل اختصاصات أوسع للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين والجامعات، لم يمكن بعد المنظومة التربوية من إطلاق بعض الأوراش الصعبة، من قبيل إرساء آليات تقويم المردودية والموارد البشرية وترسيخ المسؤولية، بناء على مهام واضحة ومحددة. وتبقى بذلك الحكامة المعتمدة تفتقر إلى وسائل ملائمة للضبط والقيادة، وإلى تدبير ناجع على المستوى الوطني والجهوي والإقليمي بله على مستوى المؤسسات التعليمية.
الحكامة الجيدة لا تعني الاندفاع والتسرع في اتخاذ القرارات، ثم التنازل عنها بجرة قلم تحت الضغط أو لأي سبب من الأسباب، كما حصل مع بيداغوجيا الإدماج والتكوينات المستمرة والمذكرتين الوزارتين 204 و122 المتعلقتين تباعا بالتقويم والامتحانات وبتدبير الزمن المدرسي... لأن ذلك من شأنه زعزعة هيبة الوزارة الوصية بل هيبة الدولة أمام الرأي العام.
إنما الحكامة الجيدة تقتضي مراجعة القوانين التنظيمية والنصوص التشريعية وباقي المساطير المؤطرة للتدبير اليومي لشؤون قطاع التربية والتكوين. الحكامة الجيدة تسوجب إرساء لامركزية فعلية ومنح الاستقلالية الفعلية للمؤسسات على مختلف المستويات وتمكينها من كافة الوسائل والموارد والسلط والصلاحيات لتدبير شؤونها حسب ما تقتضيه خصوصياتها وظروفها. الحكامة الجيدة تستلزم إحداث نظام دقيق ومنصف للمحاسبة والمتابعة يسري على الجميع. الحكامة الجيدة تفرض الإشراك الفعلي لجميع مكونات المجتمع في أي إصلاح في جو من الديمقراطية واحترام الآراء، وإشراك الفاعلين التربويين من هيئة التدريس والإدارة المدرسية وجهاز التفتيش في اختيار المقاربات الديداكتيكية والببيداغوجية قبل أجرأتها ميدانيا. الحكامة الجيدة معناها أن نجعل من الشأن التربوي مشروعا مجتمعيا لايتأثر بتعاقب الحكومات أو بالحسابات الحزبية الضيقة.
وأخيرا، الحكامة الجيدة هي ما لخصه جون ماري دوكتيل في جواب له على سؤال كنت قد طرحته عليه على هامش المؤتمر الدولي الثامن حول تدبير الجودة في منظومات التربية والتكوين، حين سأاته عن رأيه في البرنامج الاستعجالي، فكان رده كالتالي:" الأمرالمستعجل هو أن نعطي الوقت للتربية، ذلك أن التربية سمفونية لاتنتهي..."
مصطفى بتي
مفتش تربوي- أزيلال