المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : على الفايسبوك مفتش تربوي يحكي كيف نجا من الموت في فاجعة منى


nadiazou
07-10-2015, 19:56
http://almourabbi.com/wp-content/uploads/2015/09/bousculade_mina222s.jpg




في يوم الفاجعة، كنت عائدا بعد صلاة الصبح بمزدلفة والدعاء حتى قبيل طلوع الشمس اتجهنا أنا وكوكبة من زملائي الذين فضلوا الجلوس معي وزوجتي لإقامة سنة الدعاء عند المشعر الحرام. كانت حافلاتنا قد غادرت بعد منتصف الليل وتركتنا كوننا رفضنا إلا أن نقيم السنة النبوية ونستحضر آية عظيمة من آي الذكر الحكيم. اتجهنا من مزدلفة نحو شارع يفضي إلي طريق سوق العرب. كانت معي خريطة للمشاعر المقدسة بمني وعرفات. ورسمت خط السير عبر طريق سوق العرب ثم الالتواء عبر الطريق 32 ليفضي بنا إلي الشارع 204 الذي يقطنه المغاربة والمصريون والسودانيون. كانت المسافة التي سنعبرها راجلين 3كيلومترات ونصف من مزدلفة إلي الجمرات.. كان المنطلق ينبئ بما بعده.. كان هناك حشر بمعنى الكلمة: باكستانيون، هنود، إيرانيون سودانيون.. كانت المسيرة اللاهجة الصادحة بالتلبية تسير ببطئ تترنح وتئن من حمولتها الكبيرة.. كانت الحرارة ترتفع فتزداد الحاجة إلي الماء.. وكان الضغط يزداد فنحتاج إلي نسمة أوكسيجين.. كانت مجموعتي المكونة من ستة أفراد تستغل أي انفراج لتسرع الخطى والتجاوز. وكانت تلك من حكمة رب العالمين في إنقاد أرواحنا. حينما وصلت القافلة إلى تقاطع الطريق 32 كانت فرصة بأن نغادر القافلة التي تابعت سيرها عبر طريق المشاة إلي رمي الجمرات.. تنفست الهواء قليلا فخروجي والمجموعة من الركب بعد قرابة قطع كيلومترين كانت متنفسا لي.. فقد كانت بحاجة إلي أخذ دواء الفانتولين….عبرنا الشارع حيث مررنا بالشارع 202 ووددت لو سلكناه. كان خاليا بعض الشيء لكن الفريق أراد الدخول علي مسار الطريق 204 الذي يؤدي مباشرة إلي سكننا كمغاربة. هنا كانت المفاجئة.. فقد كان هناك واد بشري آخر قادم من مزدلفة عبر طريق المشاة الثانية (هناك أربعة طرق مشاة). كنت أريد أن أتجنب هذا الاختيار لمعاناتي مع مرض التنفس ( الحساسية) وأسلك لأذهب إلي الطريق 206 ثم ألتف إلى الطريق 204. سلكنا الطريق 204 كونه كان اختيار المجموعة. كان الطريق ينوء بحمولته..وكنت احس في لحظات أنه سيغمى علي. خصوصا وأنا أسعل سعالا حادا بسبب المكيفات. قطعناشوطا كبيرا من الشارع.. ثم وجدت أنه من المستحيل المتابعة في نفس المسار..
قطعنا بعد ذلك إلي الطريق 206 عبر أحد المنعرجات..لنجده فارغا بعض الشيء..فنعبر فيه بسرعة حتى اقتربنا من الشارع 23 مسرح الحادثة والذي يفضي من جديد ليردنا إلي الطريق 204 حيث نسكن. هنا لاحظت شدة الازدحام. قررت أن أدخل علي مخيم المصريين وهو مخيم بابه يقع قبل الشارع 23 وذلك بغية تجنب الشارع 23. فوجئت بالحرس المخصص للمخيم يطلب شارتي. فوجد عليها المغرب. فطلب مني الرجوع إلى الشارع.. طلبته بلطف أن يتركني أمر عبر مخيمهم لأخرج من الجهة الأخرى إلي الطريق 204 لكنه رفض وطلب مني أن لا أسبب له مشاكل. أخذت رشة من دواء الفانتولين.. كانت حالتي سيئة..قلت له إذا قدر لي الله السقوط في هذا الهول فأنت ستكون أحد المسؤولين عنه أمام الله. رجعت إلى الشارع206 ثم دخلت الزحام الرهيب، عرجنا على الشارع 23 موقع سقوط الأرواح الطاهرة..كنا على يساره.. وكانت حوانيت البقاله إلي جانبنا. وهنا شاهدت التجارة الرابحة مع الله.. وإني لأدعو لأولذك البائعين بأن يرزقهم الله الجنان ثوابا على ما فعلوه. كانوا يقدمون قنينات الماء مجانا للمارين.. وأخذوا قناني ووخزوها بالإبر وبدؤوا يرشون الناس بها. أخذت قنينة ماء وعرضت وجهي لرشات ماء بارد أعاد تنشيط الذات والحواس.. كان العديد من مستقلي طريق التلبية نحو الجمرات قد نشف ريقهم وكان أحوج ما يحتاجون إليه رشفة ماء. لا حظت أخا مصريا يقدم علينا وفمه مفتوح مكن له زميلي القنينة ليشرب نصفها..كان أمامي رجل آسيوي لعله من الهند أو باكستان أو إيران أو العراق. كان يجر وراءه حقيبة بعجلات ومعه على جنبه زوجته تحمل طفلتها الصغيرة ذات السنة .. كانت تصرخ بأعلي صوتها بكاء وقد علتها حمرة شديدة..لم أر الحقيبة وكنت سأقع إلى الأرض عند لمسها برجلي. تمتمت بكلمات محوقلا. لم يحمل هؤلاء في مسار ال**** هذا معهم فلذا أكبادهم.. ويعرضون حياة الناس للخطر بجر أشياء وراءهم لن يراها الذين يمشون ملتصقين معهم.. فلو سقطت تلك الساعة لكانت النهاية. كانت الساعة تشير إلى الثامنة وربع. هنا انتصف الطريق..
انتصف الطريق 23 وكانت رياح الشهادة تهب والأرواح اشرأبت إلي بارئها.. صرخ أحدهم مناديا أحد العساكر.. (هناك امرأة سقطت وتدوسها الأرجل.. أنقذوها).. يا لله من سقط.. سقط وراءه من جاء بعده.. وكان الموت حليف الكل..كان علينا أن نعبر من يسار الشارع إلى يمينه ليسهل علينا الالتفاف والدوران المرن في التقاطع مع الطريق 204. فطلبت من الفريق أن يلتصق لنعبر النهر الجارف بشكل انسيابي معه.. وكنا نتودد إلي الناس ونعبر جزئيا ويسر الله ذلك. لما كنا في آخر الشارع كانت هناك بوابة تفضي إلى مخيم التونسيين. كانت مغلقة.. نظرت إليها مثلما كاتت عنزة السيد سوغان تنظرو من النافذة إلى حيث الحرية. قلت في نفسي لا مناص من الاستدارة عن يمين للسير في الموجة الجارفة للطريق 204. كان هناك رجل مسن منحني على برميل قمامة يلتقط أنفاسه بصعوبة. سكبت زوجتي علي وجهه ما تبقى عندها من ماء. ثم ظهرت لي البارقة.. البوابة الثانية للتونسيين.. قفزنا بسرعة إليها.. أظهرنا لهم الشارة وبحكم أن مخيمنا ملتصق بمخيمهم تركونا ندخل. ماكدنا نصل إلى خيمتنا حتى كانت مئات الأرواح تلبي نداء رب العالمين وتصعد إلي السماوات متدثرة في رداء الكفن والتلبية.. رداء الإحرام. دخل المدير علينا إلي الخيمة ووجهه ممتقع مشدوها من هول الصدمة وهو يردد الجثث في كل مكان. خرجت سريعا من الخيمة أجر الخطى وأحوقل.. إلي حيث مخيم التونسيين حيث يظهر تقاطع الشارعين 204 و23. كانت البوابة الحديدية قد كسرت وكانت الجثث على مرمى العين هكذا ممتدة.. كان ذلك كابوسا بمعنى الكلمة كيف لأجساد كانت تعج بالحياة والتلبية أن تقف حركتها في دقائق وتخرس.. كانت عيني تنتقل بين الجثامين المسجاة على الأرض ..كل في وضع.. استوى مفتول العضلات والشيخ الهرم.. الحصاد واحد..
دوت سفارات سيارات الاسعاف.. وارتفع ضجيجها..وأغلق المخيم بالكامل..ونزل الجيش ليساعد في نقل وتسوية الجثامين..كانت الجثث في كل مكان وظلت سيارات الاسعاف تنقل الشهداء حتى وقت متأخر في المساء. تم وضع عدد من الجثث متكدسة في خيمة وبدؤوا يصبون عليها الماء من الأعلى. الحرارة شديدة والأجساد ستبدأ بالانتفاخ، تم استخدام سيارات كبيرة بمروحة كبيرة على ظهرها لتضخ الهواء البارد على الأجساد الطاهرة.. تدخلت الحاملات (الرافعات أو التراكسات بالدارجة) الصغيرة لتحمل الجثامين هكذا قال لي أحد السائقين لها.تفهمت أن الوضع قد يقتضي أن يتم كذلك في ظل الحرص على المحافظة على صحة الجميع. خرجنا قبل العصر بساعة ورمينا جمرة العقبة وحلقنا فكان التحلل الأصغر.. لم يبق متسع من الوقت لنعود إلى مكة لطواف الإفاضة فالوقت بين العصر والمغرب قصير. رجعنا إلى المخيم وضعنا كمامات على الأنوف.. المكان يبدو كساحة معركة .. عربات ذوي الاحتياجات الخاصة (المعاقين والمسنين والضعفاء) مكسرة..أحذية هنا وهناك.. تلكم ما استطاع اللسان أن يعبر به.. أما ما حملته الروح من ألم فالله يعلمه
في يوم 12 ذي الحجة انتقلت إلى مكة من أجل طواف الإفاضة قبل الظهر..مرت جنازة أحدهم أمامي.. كان مسجى في إحرامه ومكشوف الوجه.. كان أسمرا.. لكن نورا يضيء وجهه.. وكان يبدو وكأنه نائم فقط… ستبقى صورته مطبوعة في ذاكرتي.. رفعت يدي تمتمت بكلمات بيني وبين ربي.. وأتممت السعي.. وصورة الشهداء الأحياء في مخيلتي .. كلهم نسخة واحدة..
هذه رواية المفتش التربوي ن م التي نشرها على حسابه في الفيسبوك