المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الطالب والمطلوب


محمد معمري
29-09-2008, 11:51
الطالب والمطلوب



طرقت ثريا الليل ظلامه، وحلت لحظات السكون العتاهية.. منضدة وكرسي ينتظراني؛ أجلس أمام النافذة المطلة على بحر أين الريح تصطدم بالريح، والموج يلتطم بالموج.. أفكاري في الدواة، بعد قليل سوف تمسك أناملي الريشة لتستخرج من الدواة نسيج قصة الطالب والمطلوب لتحبكه على صفحات بيضاء...
جالس وحدي أتأمل المشهد الذي دفعني للكتابة؛ وفجأة رن هاتفي المحمول.. إنه شخص يريدني: - ألو؟
- أنا طالب!
- وما المطلوب؟
- أمر عاجل!
- أين أنت؟
- جالس في مقهى الأمل، في شارع الضباب.
رنة أهرقت مداد دواتي، وبعثرت أفكاري، ومزقت ضميري من شدة حسرتي.. ارتديت ثيابي بسرعة.. وركبت سيارتي.. ثم نزلت في المقهى التي نعتها لي.. ها هو يلوح بيده صحبة رفيقه..
- ما هو أمرك العاجل؟
- أريد أن تكتب قصتي!
- ما هذه السخافة! أزعجتني في هذا الليل الذهبي، وبددت أوراقي من أجل أن تروي لي أسطورة!؟
- لا، يا سيدي القصاص، أنا مولع بأسلوبك القصصي، وبألوان قصصك، وأنا أسلوب، ولون في هذا المجتمع...
- ومالي أنا وحياتك! أعتذر، سأرحل على الفور.
أخذ كتابا من فوق الطاولة، ورفعه صائحا:
- سيدي القصاص، أليست هذه قصتك؟
- بلى!
- [ التلميذ يهوي إلى المدرسة ]، قصة رائعة.. حتى أنا كنت تلميذا أهوي إلى المدرسة.. واليوم إني طالب في الدرك الأسفل...
- دعني وشأني ليس لي وقت للإصغاء لهذه المتاهات؛ سأرحل على الفور.
تركتهما على الطاولة وقمت لأنصرف؛ وفجأة صرخ في وجهي:
- اجلس أيها القصاص، وأنصت إلي كما تنصت إلى أبطال قصصك! ولا تقاطعني...
في صمت ووقار عدت إلى مكاني، تركته يتكلم، وعقلي مسافر مع ذلك المشهد الذي حاولت أن أملأ الدواة بالأفكار لأجله.. إنه رجل اعتصم أمام الجامعة، وفي يده أطروحة، قرأت عن مشكلته في إحدى الجرائد المحلية.. فشدني حب الاستطلاع، والشرب من العين الجارية؛ امتطيت سيارتي وتوجهت إلى الجامعة حيث هذا الرجل لايزال معتصما..
- سيدي القصاص، هل تسمعني؟ ألم أقل لك أني نلت شهادة البكلوريا – هندسة ميكانيكية – وكان طموحي يمتد نحو الأفق.. إلا أن حمار الشيخ وقف في العقبة! ليس هناك توجيه ولا وجهة! سُدّت كل الأبواب في وجهي فتهشم طموحي ولم أجد نفسي سوى طالب لغة انجليزية.. وها أنذا أقتل الوقت في الجامعة ريثما تحل معجزة!
وهذا صديقي كان له نفس المصير.. والآن حصل على وظيفة بمرتب منحة، زائد منحة الجامعة عندما يتقاضاها مع راتبه الشهري يتنفس تنفس الصعداء...
- عجبا! أنت تقتل الوقت في الجامعة؛ ألم تعلم أنك أنت وقتا، والثواني التي تمر منك قد ماتت!؟ وأنت، ألم تعلم أن ما تفعله خيانة!؟
- سيدي القصاص، لعلك تعلم أن نجاحنا من قسم إلى قسم كان باعتمادنا على النقل، وليس على العقل! فكيف لآلة فاسدة تنتج الجودة؟
مالي أنا ومتاهتهما المعقدة! إني أفكر في الرجل وأطروحته.. لما اقتربت من المعتصم قرأته السلام فردّ السلام علي بالتمام؛ وقلت له:
- سيدي، لقد قرأت مشكلتك في الجرائد.. وأنا قصاص وأريد أن أسمع من فمك ما هو المطلوب، فانظر ماذا ترى؟
- قال: قصاص! الآن فهمت ما معنى:- مصائب قوم عند قوم منافع – وما اسمك؟
- أجبته: لا تجعلني ممن ينظرون من هذه الزاوية، واسمي: علاوي ياسين.
- فقال: الاسم يدل على المسمى؛ هل أنت صاحب قصة: ( التلميذ يهوي إلى المدرسة )؟
- فقلت: نعم، سيدي.
طأطأ رأسه، وشهق شهقة عميقة وقال: الآن وجدت من يسمعني لينشر خبري في العالم؛ ثم نظر إلي نظرة ممتلئة بالحسرات وبدأ يحكي:
كنت طفلا صغيرا وكان طموحي أقدم لبلدي شيئا عظيما.. وظل هذا الطموح ينمو معي ويراودني من حين لآخر.. إلا أنني طردت من الإعدادية من السنة الثامنة.. بالإضافة إلى مشاكل الفقر، والنزاعات الأسرية.. احترفت الحرف.. إلا أن القراءة والمطالعة لم أفارقها طيلة حياتي، ولن أفارقها.. أما الطموح لم يُطرد من قلبي؛ فلم أدر أي شيء هذا الذي سوف أسدي به عملا عظيما لبلدي!
لقد كانت رحلتي في الثقافة رحلة طويلة؛ ومع مرور الزمن، بدأت أكتب المقالات في الجرائد والصحف.. إلى أن كتبت هذه الأطروحة وتقدمت بها إلى الجامعة فرفضوا الطالب والمطلوب! لأن مستواي الدراسي الثامنة إعدادي! ولم يشاءوا حتى النظر فيها!
- سيدي المعتصم، هناك قوانين مسطرة لتقديم الأطروحة.
لم أكمل كلامي لأنه نهر في وجهي قائلا:
- اذهب إلى الجحيم أنت وقوانينك المسطرة، حتى أنت منهم، يكفيني أنني نلت الشهادة الابتدائية في الستينات! وكنت أحمل المحفظة في يدي، ومن المنزل إلى المدرسة أداعبها من يميني إلى يساري آلاف المرات، وتارة أخرى أضعها على صدري.. كنت، وكنا نذهب إلى المدرسة، ولم نكن نهوي إلى المدرسة كما هو الشأن اليوم.. أغرب عن وجهي.. أتحداك إن قلت أي جامعة من الجامعات العربية يخرج منها من يقول: أقول؛ كل من تخرّج من هذه الجامعات يقول: قال، قالوا.. حتى من يٌسمّونهم علماء لم يقولوا لنا سوى الجزئيات ونسوا الكليات.. أتحداك إن قلت لي أي مُقرّر من السفح إلى القمة يعمل على تطوير القدرات الفكرية، ويكوّن الطموح لدى الطالب حتى يحصل على المطلوب.. الكل يقول كان أبي؛ أرني من يقول ها أنذا.. أغرب عن وجهي...
- سيدي المعتصم، مهلا، لا أريد إزعاجك، بل أريد أن أعرف كل شيء، لا أريد أن أكتب عنك شيئا لم تتصف به.. فرق قلبه وقال: معذرة.
- سيدي المعتصم، هل تسمح لي بإطلالة على أطروحتك؟
- قال ببساطة: ها هي أمامك.
أخذتها فقرأت العنوان: [ تغيير برامج التعليم من السفح إلى القمة ]؛ قرأت سطورا من المقدمة، فرأيت كيف حدد الموضوع، والمنهج الذي اعتمد عليه، والتبويب وفصول الأطروحة، والمصادر والمراجع التي اعتمد عليها؛ ثم انتقلت بإلقاء نظرات على هيكلة البحث، وانتقلت إلى الخاتمة.. لا زلت أقرأ في الخاتمة ولست أدري كيف تسربت الدموع على سائل خذي.. وضعت الأطروحة في الأرض كما كانت أول مرة، إلا أنني وضعتها بإجلال وتقدير وقلت في نفسي: لم تكتب بعد أطروحة في هذا المستوى العالي! هذا يدوّخني، مستوى الثامنة إعدادي يكتب هذه الأطروحة!؟ تملكني الشك واستدرت وأنا أقول له سأعود إليك عما قريب سأعود، سأعود...
وبينما أنا أسير اتجاه سيارتي التفت إلي طالب وقال: ذلك المعتصم رمز للثقافة العالية، وهذا هو المطلوب.. وقلت له: وكيف عرفت ذلك؟ أجاب: إنه جارنا...
امتطيت سيارتي وأقلعت إلى أن وصلت إلى بيتي، أريد أن أضع في الدواة كل ما قاله لي المعتصم؛ وارباه! شبابا المقهى أمام منزلي!
- أيها القصاص، لا أرى أحدا يسمع لقصتي ويكتبها مثلك، لا أحدا ينصفني: الدرب طويل، والظلام دامس، والشوك نذير، والطريق مليء بالحفر.. قصتي لا تنتهي بالحب، والتلاقي بعد الفراق.. وإن كنت ترى حياتي أسطورة! فلا بأس سميها أسطورة، أو اتركها عارية الأسماء أفضل.. فقط يجب أن تعلم أنه ليس لدي مشكلة لأنني أنا مشكلة!
رباه! ليس لي وقت الجدال، كل الأفكار التي كنت أحملها بدأت تغيب عن ذاكرتي؛ ماذا سأضع في الدواة؟ ولأتفادى هذه المشكلة اللصيقة التفت إليه وقلت:
- أوافق على كتابة قصتك، أأتني بصورتك حتى أضعها على الغلاف.
- قال: ضعف الطالب والمطلوب؛ أتستهزئ بي؟
- قلت: ما عدا الله، بعد سنين سوف تجدها في رفوف المكتبات.
- بعد سنين! هذا هو الاستهزاء البيّن، ما كنت أظنك يا قصاص هكذا!
- صدقني، إن العقدة تكلفني سنوات.
- إذا كانت العقدة تكلفك سنوات، فالحل سوف يكلفك قرونا!
لعل البداية أصبحت مشكلة مع هذين الشابين، أما الوسط فلا أغوص فيه.. كل ما أريد الآن النهاية.
- لا عليك... سوف تكون قصة شيقة، وسأنال أسكارا ذهبيا، لا عليك.. أنت مشكلة، وصرت في الحياة معضلة، طالب في الكلية، والمطلوب فك الحصار العلمي، والثقافي، والاجتماعي عليك.. أليس هكذا!؟
- أراك تراوغ الكلمات، وكلما أشرقت شمس الكلام إلا استدرتها نحو الغروب؛ وأي شمس للكلام!؟ يجب أن نقول: حلم الكلام، بل سراب الكلام؛ لا! هناك أفضل من هذا...
أيها القصاص، لم تفارقني تلك العبارات في قصتك: (التلميذ يهوي إلى المدرسة):[ التلميذ اليوم يحمل - البردعة - على ظهره، أو يجر العربة من ورائه ثم يهوي إلى المدرسة.. والمعلم يضع تمارينا للإنجاز، ثم يركن إلى مكتبه فيفتح مذكرة صغيرة، وقلم الرصاص، وممحاة ثم يحسب منحته الشهرية بين الجزار، والبقال، والخضار، وفاتورة الماء والكهرباء.. لا تكفيه لسداد الديون، والفاتورات، لأن البنك يخصم له دين المنزل الذي اشتراه.. لكن ابنته سوسن تريد أشياء كثيرة.. وابنه مروان لا أقول ماذا يريد.. والأب المعلم يبحث عن جملة مفيدة ليقنع بها أبنائه! ولكن هيهات هيهات! لا تزال خمسة عشرة سنة من الاقتطاعات البنكية.. سوسن ومروان سيمر من عمرهما أكثر من عشرين سنة.. ومن حين لحين يسمع التلاميذ: أشششش؛ فرق كبير بين الأمس واليوم عندما كان يقول المعلم: سكوت.. فرق كبير عندما كان يمر المعلم بين الصفوف.. الكل يعتمد على العقل، واليوم الكل يعتمد على النقل.. فرق كبير عندما كان المعلم يذهب عند أولياء التلاميذ ويخبرهم بتصرفات أبنائهم.. واليوم أولياء التلاميذ هم من أصبحوا يأتون عند المعلم؛ ولكن ليس لمعرفة أحوال التلاميذ التعليمية، بل يأتون لتهديد المعلم وحتى شتمه أمام التلاميذ وداخل المؤسسة... ]...
قصة رائعة أيها القصاص، بعيدة كل البعد عن الخيال، وعن الفكر التجريدي، هكذا أريد قصتي، أتسمعني؟
لعل هذا الشاب لم يدر أنه بعثر أوراقي، وقتل من وقتي ساعات، لم يدر أنني كتبت من قصة المعتصم سوى ما يُكتب قبل البداية.. موضوع بالغ الأهمية: تغيير برامج التعليم من السفح إلى القمة، في أطروحة ملاقاة على الأرض وراء الكليات!...
- لم أقل له سوى: سمعتك، أراك لاحقا، لدي أشغال كثيرة في هذه الساعة...
- أيها القصاص، أنا الطالب، وأنت المطلوب!
تركتهما وصعدت إلى بيتي محاولا أن أنسى ما قاله هذا الشاب، محاولا تذكر ما قاله لي المعتصم...
وفي سكون الليل الأخير، رفعت ريشتي لأرسم عبارات قدست الحكمة ساطع معانيها؛ رغم التعب فالكتابة لا تتعبني، إلا أنني لم أستطع كتابة أي شيء! لأن هذه العبارات لاحت لي في الأفق بالبحث عن الطالب والمطلوب بين الذاتية والموضوعية، أو بين الإستراتيجية والإيديولوجية، أو بين الشخصية والسيكولوجية، أو بين التغيير والتقليد، أو بين الوسيلة والغاية، أم بين الثقافة والسلوك.. فأدركت أن هذه بين.. بين.. هي المطلوب، فمزقت كل الأوراق التي كتبتها قبل البداية لأعيد النظر في هذه العبارات التي قدست الحكمة ساطع معانيها.. وتعلمت شيئا جديدا هو أنني أبدأ دائما من جديد...


بقلم: محمد معمري

الزبير
12-10-2008, 17:18
مشكور على القصة أخي الكريم

tijani
15-10-2008, 21:42
مشكور على المساهمة أستاذي

قصة مشوقة بأحداثها المتسارعة وتحمل معاني كثيرة، فقط تمنيت لو حذفت ماذيلت به نصك من تساؤلات لاتنتمي لنسيج القصة ، بقدرما هي عبارات تقريرية ، تجعلنا نحس ان المتكلم هنا هو الكاتب نفسه لا البطل :" وفي سكون الليل الأخير، رفعت ريشتي لأرسم عبارات قدست الحكمة ساطع معانيها؛ رغم التعب فالكتابة لا تتعبني، إلا أنني لم أستطع كتابة أي شيء! لأن هذه العبارات لاحت لي في الأفق بالبحث عن الطالب والمطلوب بين الذاتية والموضوعية، أو بين الإستراتيجية والإيديولوجية، أو بين الشخصية والسيكولوجية، أو بين التغيير والتقليد، أو بين الوسيلة والغاية، أم بين الثقافة والسلوك.. فأدركت أن هذه بين.. بين.. هي المطلوب، فمزقت كل الأوراق التي كتبتها قبل البداية لأعيد النظر في هذه العبارات التي قدست الحكمة ساطع معانيها.. وتعلمت شيئا جديدا هو أنني أبدأ دائما من جديد...

تحياتي أستاذي

e.soukaina
22-10-2008, 21:18
جزاك الله خيرا على القصة

محمد معمري
29-10-2008, 19:50
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أشكر إخواني الكرام، على مشاعركم الطيبة.
تقبلوا مني.

mostafa33
29-10-2008, 23:35
شكرا اخي على القصة الممتعة.........

محمد معمري
30-10-2008, 15:31
شكرا اخي على القصة الممتعة.........
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أخي الكريم، أشكرك على تقييمك للقصة.
تقبل مني.