المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : " وداعا أمي ، وداعا مدينتي ، وداعا صديقي الجيلالي "


نورالدين شكردة
19-10-2008, 21:34
" وداعا أمي ، وداعا مدينتي ، وداعا صديقي الجيلالي "


استفسار :
دلفت إحدى أبواب مصالح النيابة لأستفسر أحد الصلع عن الملاذ الذي اختارته لي الوزارة المعنية ، و كانت البداية ...
وداع :
حانت لحظة الوداع و كم كان مؤلما ... حانت لحظة الفراق الأول و كم كان موحشا . عانقت أمي و كم طال عناق أول فراق ... انسابت دموعي و دموعها علـى نفس الخـد ، و حبست شهقات بكاء طفـولي ... ضبطت نفسا مرهفة و خنقت روحا مفعمة بخليط من المشاعر و الأحاسيس المتدفقة ، قبلت يدي أمي و جبينها و رأسها و نزلت درجات سلم منزلنا و أنا اذرف خفية دموعا ساخنة .
سـفــر :
ابتعدت الحافلة و معها ابتعدت الأضواء الكاشفة التي أصبحت تزين سماء فاس ، ليل عرفت إحدى الشركات السياحية بقيمته و روحانيته فجعلت منه شاشة تحكي عليه فاس تاريخها ...
تبدو فاس من بعيد و كأنها ثريا مرصعة بالمآذن و الهوائيات المقعرة . و تبدو أيـضا و كأنها حصن أسطوري يسهر على حمايته " زلاغ " حارس فاس الخاص ... ابتعدنا و ابتعدنا حتى لم تعدو تبدو لي فاس من بعيد ... بـدت لنا البـوادي بدواويـرها و دورها و بـدوها و بيادرها و آبارها و لم تتوقف الحافلة ، بدت لنا الصحراء بجـمالها و رمـالها و جـبالها و زواحفها فتوقفت الحافلة ...
المشهد الأول
جاؤوا لفاس و حلمهم لمـس التاريـخ ، احتضان الأصالة ، تـذوق طعـم القدسـية و التصوف ... كان عددهم 148 طالبا مسلما ، و كانت أمريكا و بريطانيا مساقط رؤوسهم ... جاؤوا لفاس قبلة كل مسلمي العالم ، قبلة كل الباحثين عن المعرفـة و الوجـد و السـمو و التسامح الروحاني ، و قبلة كل من يريد الغوص في تاريخ و تراث و حضارة الإسلام . الـتقوا في حلقـة بديعة حـول عالم يحاضـرهم و مترجم يناقشهم ... فاستعادت القرويين مجد تاريخها المشرق بحضورهم ، و تجاهل الطلبة عسر حرارة غشت فاس مع يسر أجواء دروتهم التكوينية الروحانية .
حنـيـن :
أي نوع من الحنين الموحش هذا الذي ينتابني لأمي و للجيلالي و لفاس الجديد و فاس البالي ... أي نوع من الحنين هذا الذي يعصف بي في لحظات غربة و عزلة وصمت لمدينتي الأم ... يخيل لي أحيانا أن فاس فاسي أنا وحدي ، فتملكني عـظمة و عنصرية الانتـماء ، و أصرخ في وجه كل فاسي لا يناصر " الماص " " كلها و فاسو فراسـو ... أنا فاس فقـلـبي و فدمي ... فاس عروستي ... فـاس جنتي فالأرض . فاس و ميمتي و الجيلالي فالـغربة ما يفارقو أحلامي ... "
شــوق :
كم اشتقت لأمي ... كم اشتقت لمجالسة الجيلالي ... و كم اشتقت لمدينتي . اشتقت لمزاحمة الدلالة و البياعة و الشراية في كل الأسواق التي كنت اكسب منها مصروف كسوتي و أدواتي المدرسية ، " راس القليعة" ،" المرقطن" ، "سوق السباط "، "سوق الحنة ،" اشتقت لارتياد كل الرحبات :" رحبة الزبيب" ، " رحبة التبن" ، " رحبة الدجاج " ،"رحبة القيس ..." و اقتحام كل الدور : " دار السلاح" ، " دار الدبغ "، " دار السلعة " ، " دار شميعة ..." اشتقت لتربة فاس لحجارة فاس لأسوار فاس لأبواب فاس . كم أرغب في قضاء يوم في اختراق أقواس كل الأبواب ... أفطر عند " الزوين " بسفنجة مقلية مع البيض و السمـن لأنطلق مـن " باب الفتوح " أذهـب لباب الخـوخة ثـم لباب سـيدي العواد " و لا أنسى احتساء حـريرة " باعرفة " أواصل مسيرتي ، تستوقفني روائح تثير في النفس أبشع معاني الجـوع و الاشتهاء ، و هذه ميزة شهيوات فاس ، تجتذبني الروائح و تجرني موجة من زحمة تقصد ضريح الولي الصالح ، فلا أعبأ بنفـسي إلا و باب أبي الجنود منتصبة أمامي ، أستريح بقهوة " الكلالي " و نغمات رشفات كؤوس شاي منعنع و آهات أطلال أم كلثوم تطرب الجالسـين و المارين ، أتذكر الأبواب التي لا زالت تنتظر زيارتي فانتفض واقفا متمما جولتي ، أعرج على باب قصبة النوار و من هناك أطل على " باب العجيسة" ثم أعود لأنعطف على " باب الشرفاء" " و باب الساكمة " و " باب الجياف" " و باب المحروق " "و باب المكينة و ..." أبواب تاريخية خالدة ، قد تنهار أحيانا لكنها سرعان ما تعود لتبنى أو ترمم لتبقى على الدوام حصنا من حصون فاس و رمزا من رموز عمرانها . اشتقت الى زحمة فاس و إلى مطالـعه و ملامسة أجساد بشرية ... تؤخذ أفواج السياح ببناء و سلع فاس فتقف مشدوهة واجمة معرقلة سير المرور ، رافعة من زحمة فاس ، كما تساهم البغال و الحمير و الكراريس هي الأخرى بحقها في الزحام ... زحام دافئ حميمي ... موخـز ... مثير للأحاسـيس أحـيانا و للمخاوف أحيانا أخرى ... فحذار من غفلة الزحاف ! . اشتقت إلى فاس و هي مشمشة ، اشتقت إلـيها و هي ممطرة و اشتقت إليها و الضباب يعلو تقعرها فيخفي كل معالمها . اشتقت إلى صـباح و مساء و ليل فاس ، اشتقت إلى كل شيء له صلة بفاس و أي شيء يحمل رائحة فاس ... العطور ، التمور ، الحناء ... اشـتقت ليلـة من ليال رمـضان فاس و أعياد فاس ... اشتقت لضجيج صفارين فاس و ألـوان صباغين فاس و رائحة عشابين فاس ... اشتقت للدروب المظلمة ، للأحياء ، للحومات ،للأزقة الضيقة . للـمسارب ، للالتواءات و للانعراجات ، للعقبات ، للطالعات ، للاـنحدارات ، لسبـع لويات ، للجـنانات و السقـايات ، لماسحي الأحـذية و المتسولين ، للحمقى المسالمين ، لدور صفيح فاس ... لخليع و شـباكية و بغرير فاس ...
ذكـــــرى :
تذكرت و أنا أعد نجوم السماء و أخترق ببصري بياض القمر كل الذكريات الجميلة تذكرت والدتي ، مدينتي ، صديقي الجيلالي ، ... تذكرت إخوتي ، مدرستي ، إعداديتي ، ثانويتي ، مركز تكويني، مقهى جلوسي ، سلحفاتي ، كتبي ، قصصي ، تذكرت منزلي بزواياه و أركانه و هندسته ، بسرير نومي فيه ، بجدرانه ، و نوافذه ، و زليجه ، بجيرانه ، و بنت جيرانه ، وسطحه . و تذكرت بشدة بيت راحته ، ذلك المكان الذي اشتقت إليه كثيرا و اشتقت إلى جلستي المريحة به و أنا أقرأ جريدة الصباح ، جلسة حرمت منها و من حلاوتها ... حقا إنها لحظة رائعة تلك التي يفرغ فيها الإنسان بطنه من الفضلات و يملأ رأسه بالمستجدات في تزامن لذيذ ...

المـشـهـد الــثانـي

المكـــان


جنان السبيل ، الزمان : كل الأيام ما عدا يوم الاثنين الأحداث : تغاريد عصافير ، حفيف أشجار النخيل ، و الصفصاف ، مغازلة ، ضرب مواعيد ، همس عشاق ، ذكريات حب ، علاقات عاطفية تربط ثم تفـسخ ، مسـتنسخات دروس تهـضم ، قصـص حب هـندية و مـصرية تجسد ، وعود زواج تتلاشى . جـنان الـسبيل ملاذ عابـري السـبيل و الـتلامـيذ و المجازيـن و المعطلين و المتقاعدين ... قد يموت أحد مرتاديه الدائميـن ، لكن سـرعان ما يخلفه زبون جديد ... و قد تباع جذوع شجيرات خيزران سرا لأحد بائعي " جبان " لكن سرعان ما يعود أحد المرشحين المنتخبين لتشجيره من جديد ...
أذكر جنان السبيل " بخابية " مائه الفخارية و بقططه الوديعة و بذلك الفقيه الذي يقبع عند مدخل بابه الرئيسي ، يسار متسول مألوف و يمين بائع " الدطاي " و أذكره أيضا بتلك القلوب و الأسهم و أزواج الأسماء المحفورة على جذوع أشجاره ...
غــــــزل

عروستي ، أعاهدك أنني سأصون عذريتك إلى الأبد ، فحولتي تنهار أمام دلالك ... أيتها العذراء ، الشهية ، الفيحاء ، الدائمة الأصالة ، أيتها المضيافة الولافة الدائمة الحضارة ، أيتها المقدسة الخالدة الشامخة ، أقسم أنك نلت من الصفات و الميزات ما لم تنله بابل ، و أشهد أنك أول من استطاعت أن توقعني في حبال روحانيتها ... فافتخري ... بلغني أحد دكاترة فاس الأجلاء غازلك قبلي ، و تغنى بطزاجتك مؤكدا انه تذوق من فواكهك السبـع ، من مـشماشة و توتة و رمانة دربك من برقوق جزامك و زبيب رحبتك و خوخة بابك و من زيتون وادك ... فقط احذري ثورة غيرتي .
امـــنــيــة
كم أتوق لشربة ماء باردة من خصة " القرويين " أو " الأندلس " ، و كم أتوق لشربة
ماء دافئة من صهريج " سيـدي احرازم " و كم اشتـهي أخذ حمام سـاخن ناجـع " بمولاي يعقوب " أو " عين الله " ... أتوق أيضا للحظة فسحة مفتوحة أكون مخيرا فيها بين إفطار في " وادي فاس " أو غذاء في " ويسلان " ، أو جولة حرة في أزقـة " المـلاح " و دروب " البطحاء" ... جولة قد تأخذ مني أو منك ساعتين من الوقت، لكنها ستمنحك شرف عيش لحظة سمو و إشراق و تسامح مع الذات و أنت تقتـحم حرمـة و قدسية " العطـارين و " النجارين " و النيارين " و " المشاطين " و ... و ...
و عـــــد

أمـي ، مـدينتي ، صديـقي ، غريب أنا هنا بين الجبال ، تائه في دوامات الحنين و الشوق و الذكرى . لكنني أعدكم أنني سأعود إليكم يوما ما ... فلا تحملوا همـي ... أنا معـلم أبناء هذا الوطن فافتخروا بي ... جندي مسالم أنا .. فصلوا من أجلي ... و انتظروا عودتي ...
المشهــد الثالـــث

فوج من السياح الأجانب ، يتزاحم من اجل التقاط صور لفسيفساء واجهة ضريح "مولاي ادريس " ، تصل زحمة فاس إلى ذروتها و ترتفع معها وتيرة البيع إلى أقصاها ، يطأ شاب بكعب حذائه العالي على بلغة شيخ فاسي قح . يلتفت الثاني نحو الأول متألما ، يعتذر الأول فيقبل الثاني العذر مبتسما ... و هذا غيض من فيض شيم فاس ...

الزبير
25-10-2008, 16:01
وصف دقيق لمدينة العلم والعلماء وكأنك تتجول بين أزقتها ودروبها من باب لباب
شكرا على المساهمة

wafae
25-10-2008, 22:33
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أخي نور الدين لا أجد عبارة توصل ما انتابني و أنا أقرأ أسطرك , وصفك أكثر من رائع , عاد بي إلى ذكريات قريبة , حزينة و مؤلمة , كم هي صعبة تلك اللحظات , حين تجد نفسك مضطرا لترك الأحبة و مفارقة الأخلة و هجر أريح الأمكنة ...

ابتعدت الحافلة و معها ابتعدت الأضواء الكاشفة التي أصبحت تزين سماء فاس ، ليل عرفت إحدى الشركات السياحية بقيمته و روحانيته فجعلت منه شاشة تحكي عليه فاس تاريخها ...
تبدو فاس من بعيد و كأنها ثريا مرصعة بالمآذن و الهوائيات المقعرة . و تبدو أيـضا و كأنها حصن أسطوري يسهر على حمايته " زلاغ " حارس فاس الخاص ... ابتعدنا و ابتعدنا حتى لم تعدو تبدو لي فاس من بعيد ... بـدت لنا البـوادي بدواويـرها و دورها و بـدوها و بيادرها و آبارها و لم تتوقف الحافلة ، بدت لنا الصحراء بجـمالها و رمـالها و جـبالها و زواحفها فتوقفت الحافلة ...

أي نوع من الحنين هذا الذي يعصف بي في لحظات غربة و عزلة وصمت لمدينتي الأم ... يخيل لي أحيانا أن فاس فاسي أنا وحدي ، فتملكني عـظمة و عنصرية الانتـماء .

أنــــــــــــــا فـــــــــــــــــــــــــاس فــــــــــقـــــــــلـــــــــــــبي و فــــــــــــــــــــدمـــــــــــــي

أم ايمان
27-10-2008, 21:59
لا ادري ماذا اكتب ......يكفي ان دمعة بقيت عالقة بين جفوني ....تخشى ان تنزل فاستهزأ من نفسي و تخشى البقاء على صفحة عيني فتمنعني من القراءة........................................... ...

salma8
27-10-2008, 22:03
مبدع في جميع الاشكال الأدبية
كلام معبر دافئ يبعث فينا الحنين للأصل و الجذور
دمت لدفاتر ذخرا

نورالدين شكردة
06-11-2008, 09:36
وصف دقيق لمدينة العلم والعلماء وكأنك تتجول بين أزقتها ودروبها من باب لباب
شكرا على المساهمة

بارك الله فيك اخي الزبير على شغفك الكبير بمتعة القراءة اغبطك حقا على ملكتك هده
ستكون المتعة اكبر لو حللت ضيفا على هده المدينة وعاينت مشاهدة ما كتبت واعلم أنني أنا والجيلالي نرحب بك في اي وقت
تحياتي

نورالدين شكردة
06-11-2008, 09:40
[QUOTE=wafae;229442]السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أخي نور الدين لا أجد عبارة توصل ما انتابني و أنا أقرأ أسطرك , وصفك أكثر من رائع , عاد بي إلى ذكريات قريبة , حزينة و مؤلمة , كم هي صعبة تلك اللحظات , حين تجد نفسك مضطرا لترك الأحبة و مفارقة الأخلة و هجر أريح الأمكنة ...

[color=blue]أي نوع من الحنين هذا الذي يعصف بي في لحظات غربة و عزلة وصمت لمدينتي الأم ... يخيل لي أحيانا أن فاس فاسي أنا وحدي ، فتملكني عـظمة و عنصرية الانتـماء .

[font=times new roman][color=re

مشكورة على عباراتك الرقيقة واضح ان فاس فعلت فيك أيضا ما فعلت في وأغرقتنا في وجدها وإشراقها
ولا انسى شكرك أيضا على اطراؤك المشجع
ملاحظة أساسية هدا الوله بمدينتي انتقل الان إلى ولهي بمقر عملي بين جبال الريف حيث أقسمت المنطقة بأخاديدها وإنسها وجنها ألا تتركني أغادر أو أنتقل
تحياتي

نورالدين شكردة
06-11-2008, 09:43
لا ادري ماذا اكتب ......يكفي ان دمعة بقيت عالقة بين جفوني ....تخشى ان تنزل فاستهزأ من نفسي و تخشى البقاء على صفحة عيني فتمنعني من القراءة........................................... ...

أسف والله أسف على كل إحساس غير طيب أخلفه في نفوس من و يقرأ جيلالياتي
مشكورة أختي إيمانة على عكس شعورك الصادق
تحياتي و اعتداراتي

نورالدين شكردة
06-11-2008, 09:46
مبدع في جميع الاشكال الأدبية
كلام معبر دافئ يبعث فينا الحنين للأصل و الجذور
دمت لدفاتر ذخرا
ودمت لدفاتر فخرا
جملك تنفث الخجل والفرح في شراييني
مشكورة على اطراؤك ومشاعرك النبيلة