نورالدين شكردة
19-10-2008, 22:48
تـــــــــــــيــــــــه -من وحي الواقع
الظلمة حالكة ، العتمة مخيفة ، ضي النجوم خافت ، و الليلة كانت غير مقمرة ... ظلال الأشجار و الصخور و التلال تثير في النفس خليطا من أفظع الهواجس المرعبة و أغرب المشاعر المتوجسة (... ) البدن يرتعش قسرا ، الأسنان تصطك رغما ( ...) القلـب يخـفق لـحنا و أطـياف أشباح و أرواح .تتجسد و هما بداخل بؤر عيني " الجيلالي ".
كسر " الجيلالي " وحشة الطريق وسكون الليل ، و استرسل في الغناء بصوت متهدج مرتعد ؛ " فاطنة ... فاطنة ... راني كنغيراه ..." بلحن خاص به غير لحن الأغنية الأصلي ، إلا أنه سرعان ما توقف عند المقطع الأول ليتذكر ما يليه ، لكن ذاكرته المعطلة لم تسعفه ساعتها ، فمزج اللازمة بأهزوجة " الكمرة علي علي و ديري دارة .مولاي الجيلالي يا النوارة.." و انتقل حزينا ناكصا لطفولته البئيسة لدندنة أنشودة " عندي ماما ، ما عنديش بابا ... ديما معايا حتى في الليل ..."
أكمل طريقه شاحبا ، واجما ، مرتجفا ، لكنه لم يحتمل صمت الخلوة و صمت اللسان ، فانطلق يـبدع مرتجلا كلمة و لحنا و غناء هذه المرة : " الدنيا ظلمات و السما غيمات و ربي كبير ، شكون أنـا ؟ و فـاين أنا ؟ و مـالي أنا معلـم بـلا طباشـير ؟ بـطاطا تقضـات و الخبز تسالات ! و ما بقاش الكوفتير ، هذي شهر ما غسلت و تغوفـلت و يـا أنا يا المديـر... توحـشت الوالدة و الحضارة و حنان و الكومير.. ."
كان المسكين قد سئم خلوته وحيدا ببيته المعزول عن الدوار، فقرر زيارة أقرب فرعية مأهولة منه ، و كانت تبعد عنه بمسيرة ثلاث ساعات ركضا أو ست ساعات مشيا . مشى مرة ، و ركض مرة و توقف مرارا . ثم عاد ليمشي و ليركض و ليبطئ المشي . لكنه لم يصل . استمر في حرث الكيلومترات الصخرية هرولة و جثوا و زحفا ، و في سقيها عرقا و دمعا ، ليكشف في آخر المطاف ، و بعد خمس ساعات من اللف و التيه و التعثر في تلابيب جلبابه الصوفي ، أنه ضل الطريقين ، طريق العودة لفرعيته ، و طريق فرعية أصدقائه ...
موسيقى ذات إيقاع شيطاني محبط تسمو بجبنه ، تهوى برجولته و اتزانه ، تعبت بتركيزه و حواسه ، مشاهد مشرقة و مخزية من حياته توالت داخل مقلتيه ، و عشرات من الأفكار البئيسة المرعبة فتت غبار الطباشير العالق بمسالكه التنفسية .
فـي غمرة اقـشعرار أبـدية اتخـذ مـن نـفسه مـؤنسا رعديـدا في محنته ، يعاتبه و يحاوره و يستفسره .تساءل – و لأول مرة مع نفسه – " لماذا أنا بالذات من كتب له أن يتوه ؟ ألم يكف القدر تيهي في المكان و الزمان ؟ ألـم يرأف بحالي ؟ ألـم ارق له تائـها أمام تلامـيذي و مهنتي ، و حيال مستقبلي و مبادئي و عقيدتي ...؟
ظل على هذه الحالة مدة طويلة ، و ليل تلك الفترة من فصل الشتاء كان يتجاوز عتبة الاثني عشر ساعة . انكمش على نفسه بين صخرتين متجاورتين كمن يحميها أو يحتويها بين ذراعيه وهنتين ، استجمع كل ما تبقى له من تركيز عله يجد حلا لورطته ، لكنه لم يصب التخمين ساعتها . فقط تذكر أن الكل كان يتربص به و يكيد له شرا ؛ زملاؤه المعلـمون ، المديـر ، المفتش ، أنـاس الدوار ... حاول وقتها أن يعثر على أسباب مقنعة لمواقفهم تجاهه ؛ ألأنه الوحـيد الـذي يمـتلـك توحيمة فحميـة شحمـية تكـسبه صــيتا و شــهرة و تـأثـيرا غريـبا عـلى الآخـرين ؟ أ ولـكونـه الأقـدر و الأجدر بـالاقـتداء فـي أمـور الـديـن و الجـنس و الـسيـاسـة ؟ أم لأنـه الوحـيـد
الـذي لا يـتملـق و يستمرئ و يرائي و يداهن ...؟ شعور عميق بالتواطؤ انضاف لباقي المشاعر الأخرى فتقاذفت بانفعالاته و أحاسيسه في بحر لجي من الغموض و القتامة و الهلع ...
على مر عقد ونصف من الدراسة و التدريس لم يسبق للجيلالي أن سما بفكره و تساؤلاته الى هذه الدرجة من الوعي و الإدراك ، أو أن مارس نوعا من مراجعة النفس و محاسبة الذات ، أو أن اختلى ببدنه و توحيمته ليتأمل سيرورة مشواره الآثم القاتم . و ها هو اللحظة يرغم على الخلوة و العزلة و على التوحد مع الذات ، و التفكير في كل شيء ؛ في والدته و كم تأفف عليها ، في مدينته و كم دنس قدسيتها و استخسر عليها وطنيته الجياشة ، في عقيدته و كم استهتر بمبادئها ، في خطاياه و زلاته ، و في كل صور و أوجه وقاحته و دناءته ... و أقسم ساعتها إن هو خرج من هذه الأزمة سالما أن يتـوب إلى الله و أن يكثر من الاستـغفار و الـذكر و الـصلاة ، و ألا يفوت أي وقت و أي نوع من الصلوات ... و أن يقوم الليل و أطراف النهار ...
فاحت منه رائحة البداوة و التعب و الموت ، غير أنه لم يعبأ بما بدا منه و ظهر.، ليتوه في هلوساته و استهامته ...» يا الله هم الغربة و النفي لم يكف فانضاف إليه رعب التيه ... أكل هذه الهواجس تكتسحني لأنني تهت ؟كيـف تراهم تلاميذي و هم على الدوام تائهون ، شاردون ؟ أتراني الضال الوحـيد هـذه الليـلة ؟ أشـك فهـناك مـن هـم أضل مـني ، أتفه و أدنأ مني ... « لا فتيلة لا قنديل غير ضوك يا جليل ... « جـدلا لنـفترض أن نـفرا من الجن و اللصوص اعترضوا طريقي ، إلى أي الطائفتين سأستجير ؟بالطبع و بدون شك إلى الجن ... على الأقل هم سيزوجونني إحدى جنياتهم ، في حين أن الآدميين سيفتكون بملابسي و عرضي إن لم يجدوا معي دراهم ترن لهما سفالتهم ... لو كنت رسولا لأضاءت من فوقي شمس الله. لكنني كدت أكونه فقط كما ادعى شوقي !انا تائه اذن انا غير موجود ، غير وازن ، غير ذي أهمية
من أول خيط ظلام إلى آخره . و في إحدى ليالي يناير القارسة ، شهدت بقعة قصية من مرتفعات الأطلس الصغير مأساة موظف شاب حديث التعيين ... ذنبه الوحيد أنه مل وحدته ، فتاق للمة و الأنسة و لآدمي يتذكر و إياه حضارة سائرة في طريق النمو ، لـكنه و عـن غـير وعــــي ، و في شبه انتحار، ألقى بنفسه في ما هو أبشع من مشاعر النفي و التهجير .
عشر ساعات من ضل الطريق ، و دوس الأشواك ، و الاصطدام بالنتوءات ، كانت كافية لوأد شرارة الحياة ، لإرغام النفس على استـحضار و اسـتشعار نبـض سكـرات الموت ، لترديـد و تهيئ كل الأجوبة لكل الأسئلة التي من المسلم أن يستقبل بها الملكان منكر و نكير ضيوفهما.
تحامل على نفسه و قرر اكمال المسير، ما دامت حلوى "الجبح " التي لسها قبل بدء مشواره مستمرة في مدة بقدر من الطاقة . تناسلت جبال وعرة المسالك من رحم أرض متواطئة هي الأخرى ، و تشبت " الجيلالي " على الأقل ، و لغاية لحـظة نـيل حـوالتـه بآخـر خيـوط الأمل ، و بأهذاب غريزة البقاء و بالرغبة في الاستمرار بالحياة . نال منه التعب و الوهن ، وطاله إ**** غريب من نوعه ، امتد من أوصاله إلى عروق شرايينه حتى خلايا مخه الرمادية .
اقتعد موطأ قدميه ...اكتنفته رجفة برد بدا له لن تنتهي ، غير أنه نجح في ترجمتها إلى شبه اغتسال من المعاصي ، إلى لحظة توبة شاملة انمحت خلالها كل مضغه الشريرة ...
بوادر إشراقة شمس بتت في نفسه المنكسرة شيئا من الطمأنينة ، و من نفس مواصلة الأمل و تحمل الألم ، تائه حتى في إغمـاءاته ... يحــترق توقا لشـربة مـاء ، لقطعة خبـز مزيتـة و نصف كأس شاي دون نعناع ... للاستماع إلى ناس الغيوان و هم يصرخون " و اندامتي "،
لطريق شبه معبدة يقذف بنفسه تحت عجلات أول سيارة تمر عبرها ، لصفع من همش المنطقة و أقصاها من الخريطة و الحسبان ... لصدر أمه الحنون كي يدس بين ضلوعـه الدافئـة ، توحيمـته الـمرتـجفـة
و يسترسل في النحيب و البكاء حتى الإشراق... لصدر ناهد آخر ينتقم على سنة الله و رسوله من تضاريسه البارزة ... و لكتاب الله عز وجل يستلهم من وحي آياته السكينة و القوة و الثقة بالنفس .و لسجادة يغرس فيها جبهته حتى الاهتراء و الفناء.
" استغفر الله ، اللهم إني أعوذ بك من الهم و الحزن ... و غلبة الدين و قهر الرجال ، اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، و أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت ... اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا و أنت تجعل الحزن إن شئت سهلا ... لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ... "أذكار و أدعية استحضرها " الجيلالي " متخشعا و اغفاءة موت أو نوم أو فقدان وعي تحوم بما تبقى له من ادراك.
تعالت الأصـوات محـتجة ، مـنـددة ، صارخة ضرورة القـبض علـى " الجيلالي " حيا أو ميتا ، بتوحيمة أو بدونها ... أحاطت به ثلة من رجال ملثمين مدججين بأسلحة بيضاء و سوداء و تناقلت ألسنتهم نوع المصير الذي أعدوه له ... بدءا استرسل زعيمهم في محاكمته و سرد سلوكياته المشينة ... " لقد غادرت الدوار قبل حلول موعد العطلة بأربعة أيام ، و حدث أيضا أن عدت بعد انتهاء إحدى العطل بثلاثة أيام ... فإلى أين بهذا الاستهتار ، و بهذا التقاعس في أداء الواجب ؟ أضف إلى هذا التأخرات و الخروقات التي طالما اقترفتها في حقنا و حق أبنائنا ... ماذا ترانا فاعلين بك الآن ؟ لم يقو على الإجابة و في قرارة نفسه المنداسة استهانة بهذا الموقف المتشنج الهين مقارنة مع سابقه ، فعلى الأقل ها هو يجد من يوبخه ، ويتهمه و يهدده بالفتك . هذا النوع من الانتقام الذي سيجلب له إحساسا بالأنسنة و بالوجود قبل الألم.
بينما هو يتلذذ مصيره الجديد ، انتـشلته يد قوية من إغمـاءته الطويلة بـعد طول اعـتنـاء و إسعاف ... جاهد في فتح عينيه و دون سابق إنذار ارتطمت مقلتيه بكتيبة من الجنود الأجانب تتجه نحوه مباشرة، و هاله أن رأى غير بعيد من موقعه نصف كتيبة أخرى من الجنود بزي العدو و بملامح أبناء الوطن مضرجة في دمائها... حاول أن يعاود الفرار من هذا المصير الأخطر بعدما جالت بخاطره المهزوز اعتقادات مرعبة شتى ... تخبط كمن أصيب بمس شيطاني بأطرافه الأرض و السماء و جحظت عيناه حتى كادتا تنطان من محجرهما من فرط الخوف ...
طوقته من جديد مجموعة من الوجوه العربية الباسمة ، و أفهمته بأسلوب مطمئن : أنه آمن سالم و كل الحكاية أنه وصل قبيل شروق شمس يومه إلى حيث تصور مشاهد لمعركة تاريخية بالمركب السينمائي جريحا ، منهكا ، جائعا ... عاد إلى صوابه ووهنه و هو يحمد الله على نهايته هاته ...
حول طاجين لحم خنزير أتلفت التوابل و الجوع معالمه انفجر الجميع ضاحكين ما عداه بالطبع ، خصوصا بعدما تذكر و هو ينتزع قطعة لحم بحجم توحيمته أنه لم يوقع المدير ليلتها إذنا بالغياب ، أو بالأحرى إذنا بالتيه و عليه فستقتطع أجرة ذلك اليوم المرعب من مرتبه الهزيل .
ودع الجميع و هرع مهرولا صوب أعز العاهرات إلى نفسه ليدس رأسه و توحيمته بين ضلوع و شحوم صدرها الأحن. و ليقص عليها محنته التي كادت أن تؤدي به إلى الهداية ...
الظلمة حالكة ، العتمة مخيفة ، ضي النجوم خافت ، و الليلة كانت غير مقمرة ... ظلال الأشجار و الصخور و التلال تثير في النفس خليطا من أفظع الهواجس المرعبة و أغرب المشاعر المتوجسة (... ) البدن يرتعش قسرا ، الأسنان تصطك رغما ( ...) القلـب يخـفق لـحنا و أطـياف أشباح و أرواح .تتجسد و هما بداخل بؤر عيني " الجيلالي ".
كسر " الجيلالي " وحشة الطريق وسكون الليل ، و استرسل في الغناء بصوت متهدج مرتعد ؛ " فاطنة ... فاطنة ... راني كنغيراه ..." بلحن خاص به غير لحن الأغنية الأصلي ، إلا أنه سرعان ما توقف عند المقطع الأول ليتذكر ما يليه ، لكن ذاكرته المعطلة لم تسعفه ساعتها ، فمزج اللازمة بأهزوجة " الكمرة علي علي و ديري دارة .مولاي الجيلالي يا النوارة.." و انتقل حزينا ناكصا لطفولته البئيسة لدندنة أنشودة " عندي ماما ، ما عنديش بابا ... ديما معايا حتى في الليل ..."
أكمل طريقه شاحبا ، واجما ، مرتجفا ، لكنه لم يحتمل صمت الخلوة و صمت اللسان ، فانطلق يـبدع مرتجلا كلمة و لحنا و غناء هذه المرة : " الدنيا ظلمات و السما غيمات و ربي كبير ، شكون أنـا ؟ و فـاين أنا ؟ و مـالي أنا معلـم بـلا طباشـير ؟ بـطاطا تقضـات و الخبز تسالات ! و ما بقاش الكوفتير ، هذي شهر ما غسلت و تغوفـلت و يـا أنا يا المديـر... توحـشت الوالدة و الحضارة و حنان و الكومير.. ."
كان المسكين قد سئم خلوته وحيدا ببيته المعزول عن الدوار، فقرر زيارة أقرب فرعية مأهولة منه ، و كانت تبعد عنه بمسيرة ثلاث ساعات ركضا أو ست ساعات مشيا . مشى مرة ، و ركض مرة و توقف مرارا . ثم عاد ليمشي و ليركض و ليبطئ المشي . لكنه لم يصل . استمر في حرث الكيلومترات الصخرية هرولة و جثوا و زحفا ، و في سقيها عرقا و دمعا ، ليكشف في آخر المطاف ، و بعد خمس ساعات من اللف و التيه و التعثر في تلابيب جلبابه الصوفي ، أنه ضل الطريقين ، طريق العودة لفرعيته ، و طريق فرعية أصدقائه ...
موسيقى ذات إيقاع شيطاني محبط تسمو بجبنه ، تهوى برجولته و اتزانه ، تعبت بتركيزه و حواسه ، مشاهد مشرقة و مخزية من حياته توالت داخل مقلتيه ، و عشرات من الأفكار البئيسة المرعبة فتت غبار الطباشير العالق بمسالكه التنفسية .
فـي غمرة اقـشعرار أبـدية اتخـذ مـن نـفسه مـؤنسا رعديـدا في محنته ، يعاتبه و يحاوره و يستفسره .تساءل – و لأول مرة مع نفسه – " لماذا أنا بالذات من كتب له أن يتوه ؟ ألم يكف القدر تيهي في المكان و الزمان ؟ ألـم يرأف بحالي ؟ ألـم ارق له تائـها أمام تلامـيذي و مهنتي ، و حيال مستقبلي و مبادئي و عقيدتي ...؟
ظل على هذه الحالة مدة طويلة ، و ليل تلك الفترة من فصل الشتاء كان يتجاوز عتبة الاثني عشر ساعة . انكمش على نفسه بين صخرتين متجاورتين كمن يحميها أو يحتويها بين ذراعيه وهنتين ، استجمع كل ما تبقى له من تركيز عله يجد حلا لورطته ، لكنه لم يصب التخمين ساعتها . فقط تذكر أن الكل كان يتربص به و يكيد له شرا ؛ زملاؤه المعلـمون ، المديـر ، المفتش ، أنـاس الدوار ... حاول وقتها أن يعثر على أسباب مقنعة لمواقفهم تجاهه ؛ ألأنه الوحـيد الـذي يمـتلـك توحيمة فحميـة شحمـية تكـسبه صــيتا و شــهرة و تـأثـيرا غريـبا عـلى الآخـرين ؟ أ ولـكونـه الأقـدر و الأجدر بـالاقـتداء فـي أمـور الـديـن و الجـنس و الـسيـاسـة ؟ أم لأنـه الوحـيـد
الـذي لا يـتملـق و يستمرئ و يرائي و يداهن ...؟ شعور عميق بالتواطؤ انضاف لباقي المشاعر الأخرى فتقاذفت بانفعالاته و أحاسيسه في بحر لجي من الغموض و القتامة و الهلع ...
على مر عقد ونصف من الدراسة و التدريس لم يسبق للجيلالي أن سما بفكره و تساؤلاته الى هذه الدرجة من الوعي و الإدراك ، أو أن مارس نوعا من مراجعة النفس و محاسبة الذات ، أو أن اختلى ببدنه و توحيمته ليتأمل سيرورة مشواره الآثم القاتم . و ها هو اللحظة يرغم على الخلوة و العزلة و على التوحد مع الذات ، و التفكير في كل شيء ؛ في والدته و كم تأفف عليها ، في مدينته و كم دنس قدسيتها و استخسر عليها وطنيته الجياشة ، في عقيدته و كم استهتر بمبادئها ، في خطاياه و زلاته ، و في كل صور و أوجه وقاحته و دناءته ... و أقسم ساعتها إن هو خرج من هذه الأزمة سالما أن يتـوب إلى الله و أن يكثر من الاستـغفار و الـذكر و الـصلاة ، و ألا يفوت أي وقت و أي نوع من الصلوات ... و أن يقوم الليل و أطراف النهار ...
فاحت منه رائحة البداوة و التعب و الموت ، غير أنه لم يعبأ بما بدا منه و ظهر.، ليتوه في هلوساته و استهامته ...» يا الله هم الغربة و النفي لم يكف فانضاف إليه رعب التيه ... أكل هذه الهواجس تكتسحني لأنني تهت ؟كيـف تراهم تلاميذي و هم على الدوام تائهون ، شاردون ؟ أتراني الضال الوحـيد هـذه الليـلة ؟ أشـك فهـناك مـن هـم أضل مـني ، أتفه و أدنأ مني ... « لا فتيلة لا قنديل غير ضوك يا جليل ... « جـدلا لنـفترض أن نـفرا من الجن و اللصوص اعترضوا طريقي ، إلى أي الطائفتين سأستجير ؟بالطبع و بدون شك إلى الجن ... على الأقل هم سيزوجونني إحدى جنياتهم ، في حين أن الآدميين سيفتكون بملابسي و عرضي إن لم يجدوا معي دراهم ترن لهما سفالتهم ... لو كنت رسولا لأضاءت من فوقي شمس الله. لكنني كدت أكونه فقط كما ادعى شوقي !انا تائه اذن انا غير موجود ، غير وازن ، غير ذي أهمية
من أول خيط ظلام إلى آخره . و في إحدى ليالي يناير القارسة ، شهدت بقعة قصية من مرتفعات الأطلس الصغير مأساة موظف شاب حديث التعيين ... ذنبه الوحيد أنه مل وحدته ، فتاق للمة و الأنسة و لآدمي يتذكر و إياه حضارة سائرة في طريق النمو ، لـكنه و عـن غـير وعــــي ، و في شبه انتحار، ألقى بنفسه في ما هو أبشع من مشاعر النفي و التهجير .
عشر ساعات من ضل الطريق ، و دوس الأشواك ، و الاصطدام بالنتوءات ، كانت كافية لوأد شرارة الحياة ، لإرغام النفس على استـحضار و اسـتشعار نبـض سكـرات الموت ، لترديـد و تهيئ كل الأجوبة لكل الأسئلة التي من المسلم أن يستقبل بها الملكان منكر و نكير ضيوفهما.
تحامل على نفسه و قرر اكمال المسير، ما دامت حلوى "الجبح " التي لسها قبل بدء مشواره مستمرة في مدة بقدر من الطاقة . تناسلت جبال وعرة المسالك من رحم أرض متواطئة هي الأخرى ، و تشبت " الجيلالي " على الأقل ، و لغاية لحـظة نـيل حـوالتـه بآخـر خيـوط الأمل ، و بأهذاب غريزة البقاء و بالرغبة في الاستمرار بالحياة . نال منه التعب و الوهن ، وطاله إ**** غريب من نوعه ، امتد من أوصاله إلى عروق شرايينه حتى خلايا مخه الرمادية .
اقتعد موطأ قدميه ...اكتنفته رجفة برد بدا له لن تنتهي ، غير أنه نجح في ترجمتها إلى شبه اغتسال من المعاصي ، إلى لحظة توبة شاملة انمحت خلالها كل مضغه الشريرة ...
بوادر إشراقة شمس بتت في نفسه المنكسرة شيئا من الطمأنينة ، و من نفس مواصلة الأمل و تحمل الألم ، تائه حتى في إغمـاءاته ... يحــترق توقا لشـربة مـاء ، لقطعة خبـز مزيتـة و نصف كأس شاي دون نعناع ... للاستماع إلى ناس الغيوان و هم يصرخون " و اندامتي "،
لطريق شبه معبدة يقذف بنفسه تحت عجلات أول سيارة تمر عبرها ، لصفع من همش المنطقة و أقصاها من الخريطة و الحسبان ... لصدر أمه الحنون كي يدس بين ضلوعـه الدافئـة ، توحيمـته الـمرتـجفـة
و يسترسل في النحيب و البكاء حتى الإشراق... لصدر ناهد آخر ينتقم على سنة الله و رسوله من تضاريسه البارزة ... و لكتاب الله عز وجل يستلهم من وحي آياته السكينة و القوة و الثقة بالنفس .و لسجادة يغرس فيها جبهته حتى الاهتراء و الفناء.
" استغفر الله ، اللهم إني أعوذ بك من الهم و الحزن ... و غلبة الدين و قهر الرجال ، اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، و أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت ... اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا و أنت تجعل الحزن إن شئت سهلا ... لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ... "أذكار و أدعية استحضرها " الجيلالي " متخشعا و اغفاءة موت أو نوم أو فقدان وعي تحوم بما تبقى له من ادراك.
تعالت الأصـوات محـتجة ، مـنـددة ، صارخة ضرورة القـبض علـى " الجيلالي " حيا أو ميتا ، بتوحيمة أو بدونها ... أحاطت به ثلة من رجال ملثمين مدججين بأسلحة بيضاء و سوداء و تناقلت ألسنتهم نوع المصير الذي أعدوه له ... بدءا استرسل زعيمهم في محاكمته و سرد سلوكياته المشينة ... " لقد غادرت الدوار قبل حلول موعد العطلة بأربعة أيام ، و حدث أيضا أن عدت بعد انتهاء إحدى العطل بثلاثة أيام ... فإلى أين بهذا الاستهتار ، و بهذا التقاعس في أداء الواجب ؟ أضف إلى هذا التأخرات و الخروقات التي طالما اقترفتها في حقنا و حق أبنائنا ... ماذا ترانا فاعلين بك الآن ؟ لم يقو على الإجابة و في قرارة نفسه المنداسة استهانة بهذا الموقف المتشنج الهين مقارنة مع سابقه ، فعلى الأقل ها هو يجد من يوبخه ، ويتهمه و يهدده بالفتك . هذا النوع من الانتقام الذي سيجلب له إحساسا بالأنسنة و بالوجود قبل الألم.
بينما هو يتلذذ مصيره الجديد ، انتـشلته يد قوية من إغمـاءته الطويلة بـعد طول اعـتنـاء و إسعاف ... جاهد في فتح عينيه و دون سابق إنذار ارتطمت مقلتيه بكتيبة من الجنود الأجانب تتجه نحوه مباشرة، و هاله أن رأى غير بعيد من موقعه نصف كتيبة أخرى من الجنود بزي العدو و بملامح أبناء الوطن مضرجة في دمائها... حاول أن يعاود الفرار من هذا المصير الأخطر بعدما جالت بخاطره المهزوز اعتقادات مرعبة شتى ... تخبط كمن أصيب بمس شيطاني بأطرافه الأرض و السماء و جحظت عيناه حتى كادتا تنطان من محجرهما من فرط الخوف ...
طوقته من جديد مجموعة من الوجوه العربية الباسمة ، و أفهمته بأسلوب مطمئن : أنه آمن سالم و كل الحكاية أنه وصل قبيل شروق شمس يومه إلى حيث تصور مشاهد لمعركة تاريخية بالمركب السينمائي جريحا ، منهكا ، جائعا ... عاد إلى صوابه ووهنه و هو يحمد الله على نهايته هاته ...
حول طاجين لحم خنزير أتلفت التوابل و الجوع معالمه انفجر الجميع ضاحكين ما عداه بالطبع ، خصوصا بعدما تذكر و هو ينتزع قطعة لحم بحجم توحيمته أنه لم يوقع المدير ليلتها إذنا بالغياب ، أو بالأحرى إذنا بالتيه و عليه فستقتطع أجرة ذلك اليوم المرعب من مرتبه الهزيل .
ودع الجميع و هرع مهرولا صوب أعز العاهرات إلى نفسه ليدس رأسه و توحيمته بين ضلوع و شحوم صدرها الأحن. و ليقص عليها محنته التي كادت أن تؤدي به إلى الهداية ...