المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بوجلود


عبد العزيز سيفاو
24-10-2008, 14:15
بو جلود
1
تأكد (حسن) من الزي التنكري على المرآة المتسخة الكبيرة. كان الشق الرأسي في أعلاها يشوه وجهه ويزيد من بشاعة الزي. زي (بوجلود) : قطع كبيرة من فرو الخروف خيطت بفظاعة لتشكل ما يشبه السروال والسترة. كان كل شيء جاهزا للعرض الأول غدا مع زملاءه في الشارع.

نزع (حسن) الزي ووضعه في كيس بلاستيكي أسود، كان قد ضرب مع أصدقاءه موعدا في (جراج) قريب لإستعراض أزيائهم في بروفة أخيرة. بينهم من في الجامعة و من ما زال يتابع دراسته في الثانوية كـ(حسن)، وهناك من لم تسعفه الدراسة فامتهن حرفة ميكانيكي. كان اكبرهم (سعيد) قد وعدهم بأن يحضر الترخيص من البلدية، فقد منعت السلطات ممارسة هذا الطقس لدواع أمنية كما يقولون، لكن حسن متأكد من أنها سياسة مقصودة. في العام الماضي استفزهم رجال الأمن. اعتقلوا بعضا منهم وجردوهم من أزيائهم.

غادر (حسن) غرفته وبحث عن والدته ليخبرها بأنه سيتاخر عن الغداء، كانت في السطح تزين يدي أخته الشقية الصغيرة (لبنى) بالحناء، نظر للكبش الذي يبدو سعيدا وهو يلوك بفمه مجترا، قرناه رائعان ولطخة من الحناء فوق رأسه كما تنص العادة في مثل هذا اليوم قبل العيد : يوم الحناء.

وكما توقع (حسن) لم يخدلهم (سعيد) وجلب ترخيص البلدية، أعد بطاقات عليها هوياتهم في حال حدوث مشاكل. كان (سعيد) مؤطرا في جمعية ويعرف جيدا ما يفعل. لبس الأولاد أزيائهم المرعبة وبدوا بالفعل كشياطين خرجت للتو من الجحيم. شعر (حسن) بالرهبة تجتاح جسده، بخوف طفولي انتابه فجأة خاصة مع الصرخات التي شرع الأولاد يطلقونها لتمرين حناجرهم. لكنه تمالك نفسه، فهو الان منهم، هو الآن (بوجلود) حقيقي. هو الذي من المفروض به إخافة الآخرين.

و(بوجلود)، أو(بيلماون بالأمازيغية)، أو (سبع بولبطاين)، طقس أمازيغي قديم مميز، ربما ذو أصول أفريقية، يتصادف الإحتفال به شعيرة عيد الأضحى، حيث يلبس شاب فرو الخروف حتى يصبح بملامح مخيفة جدا، يلطخ وجهه باللون الأسود أو يرتدي قناعا بقرني كبش، يزور البيوت الواحد تلو الآخر من أجل بعض النقود ثمنا للفرجة فهو يطلق صرخات عالية ويلوح حزام جلدي أو برجل الخروف، الضرب الغير المبرح بهما كما يقولون : فأل حسن يعطي الأسر الأمان والإستقرار والرزق.

كانت رائحة صوف الخروف تزكم أنفه وهو داخل الزي، لكنه ألفها، وألف الحكة التي يثيرها الزي في عنقه ومعصمه. تأكد من قرنيه وثباثهما فوق الرأس. كان هو و(محمد) و(لحسن) فقط اللذين يرتدون أقنعة الوجه مزودة بقرون حادة، بينما الآخرون اختاروا أقنعة مخيفة أخرى أو لطخوا وجوههم بالأسود كجنود المارينز.
وطوال بقية اليوم، تمرن (حسن) مع أصدقاءه على آداء أدوارهم ونظمهم (سعيد) جيدا، شرح لهم على خريطة مرسومة للحي الشوارع التي سيمرون منها وخطة لتوزيع الأماكن والأدوار. من أجل حصيلة جيدة واستعراض جميل. لذلك حين آوى (حسن) إلى فراشه ليلا نام بعمق وهو مستعد تماما ليوم الغد.


2
هرعت (لبنى) الأخت الصغرى لـ(حسن) ملتاعة تبكي واحتمت خلف جسد أمها. لم يكن (حسن) هو الذي ضايقها هذه المرة بل كانت حزينة لمرآى الكبش وهو يتمرغ في دمائه مسلما الروح. ساعد (حسن) والده على سلخ الأضحية وكان بادي الإستعجال، حتى ان والده اضطر لتعنيفه مرة أو اثنتين، لذلك مباشرة بعد أن بقر بطن الكبش واستخرج أحشاءه تركه يغادر مؤثرا العمل وحده على العمل مع ابنه وعقله في مكان آخر.

كانت شوارع الحي غاصة بالأطفال وألبستهم التقليدية الجديدة والجميلة. وكانوا يفرون علها منه وهو يهددهم ويصرخ، منهم من كان يجري ويضحك ومنهم من كان يبكي وهو يتشبث بثوب أخته الكبرى ويكاد ينزعه عنها. ومنهم من كان يشتري سلامته من الضرب بقطعة نقود يعطيها له و يبتعد مداريا خوفه. من الغريب فعلا رؤية الخوف الذي يسببه لباس (بوجلود) على وجوه بعض الناس. وكان (حسن) مندمجا في الدور كما ينبغي أن يكون. يقولون أن (بوجلود) كان وحشا حقيقيا يرعب الناس في القرى. ويقولون أن عصابات من الهمجيين كانوا يلبسون جلود الخراف والماعز ويغيرون على القرى في أزمان غابرة. ويقولون ...

المهم بالنسبة لـ(حسن) وزملاءه هو المحافظة على هذا التراث من الإندثار، وإحياؤه كل عام في عيد الأضحى. حتى لو كان (بوجلود) هو استحضار للشيطان ذاته. وكما يقول صديقه (سعيد) مازحا : "للأمريكان (هالوينهم) ولنا (هالويننا)"

كان العصر قد مضى واقتربت الشمس من المغيب. منذ استراحة الغذاء و(حسن) مع زملاءه يجوبون الأزقة ويستوقفون السيارات. كانت حصيلة ما جمعه من نقود جيدة بالفعل. كان هناك بعض الأولاد يشوون رؤوس الخراف في الشارع لربات البيوت الكسولات. ابتعد عنهم وعن النار المتأججة بخوف كوحش حقيقي يخاف النار بالغريزة. ومنظر الولد بانبوبة الغاز يشوي الرؤوس بالنار كقاذف اللهب كان مخيفا بحق.

التقى (حسن) بـ(محمد) وخاضا معا غارة جيدة على حي يكتض بالأولاد. تعرف عليه من قرني قناعه الملتويين. كان (محمد) يضرب في جميع الإتجاهات وبدا كوحش مسعور. استغرب (حسن) لنشاط زميله الزائد ورجاه بأن يهدا قليلا فالأمر لا يعدو أن يكون إلا استعراضا. لكن (محمد) دفعه بعيدا. كانت عيناه تبدوان محمرتين من خلف قناعه الصوفي وفطن (حسن) إلى ان صديقه دخن لفائف الحشيش كعادته، لذلك بدا غائبا عن الوعي قليلا. وبقي إلى جانبه لئلا يسبب مشاكل تعرضه للمساءلة وتعرض أصدقاءه للمتاعب. لم يكن (حسن) ملاكا طبعا فقد ضرب واستمتع بإخافة الأخرين. أغلب ضحاياه فتيات قبيحات مراهقات، وقد خرج منهن على الرغم من ذلك بنقود كثيرة.

كان الحفل يدوم عادة حتى ساعة متأخرة من الليل، لكن (حسن) كان منهكا وأراد أن يرجع للمنزل لكي يرتاح قليلا ويتناول شيئا. قبل أن يعود لكي يقوم مع زملاءه بآخر غارة لليوم.

ورغم برودة الجو، كان الليل صاخبا وظهرت فرق استعراضية اخرى تجوب الأحياء تعرف (حسن) على بعض الأولاد فيها. يلبسون أزياء مختلفة من ثراث قديم مثل زيه أو أزياء لرجال شرطة وحتى لوحوش (بوكيمون). تحول الأمر لنوع من المنافسة وشرع (حسن) وأصدقاؤه يحاولون استعادة الشوارع التي بدأ جيش المتنكرين الجدد يطردونهم منها. واستغرقت الحرب الإستعراضية حتى منتصف الليل.

كان (حسن) يستريح في عتبة أحد البيوت حين لمح (سعيد) يجري نحوه بدون زيه التنكري، وكان يلهث. فنهض (حسن) وقد انتابه خوف غريب وأسرع يرى ماذا يحدث؟ استوقف صديقه الذي أخبره بأن الشرطة تجمع كل من يرتدي زي (بوجلود) ونصحه بالهرب. حين سأله (حسن) عن السبب أحجم عن الجواب مباشرة وقال مندهشا : " من أين هاته الدماء في زيك يا (حسن) ؟"
نظر (حسن) مندهشا هو الآخر لزيه. كانت بقعة من الدماء متجمدة تلطخ الصوف المتسخ أصلا عند الركبة. لم يجد (حسن) تفسيرا لوجودها، غير أن صورة أخته (لبنى) ألحت على عقله وقال في شبه شرود: " ربما لطخه أحدهم حين عدت للبيت في الغداء .. أنت تعرف أن (لبنى) أختي شقية جدا .. لقد أخرجت الزي من الكيس وعبثت به في دماء الأضحية .. نعم هذا ما حدث يقينا .. سيكون حسابي معهـ ... "
قاطعه (سعيد) قائلا برجفة : " لقد اعتدي على طفل في أحد الأزقة المجاورة المظلمة .. بعض الشهود رأوا ولدا بلباس (بوجلود) يجر الطفل الخائف إلى ذلك المكان المنعزل"
انتقلت الرجفة إلى جسد (حسن) وبدأ عقله يصور مشاهد غير محببة ثم سأل :" إعتدي على طفل ؟؟ كيف ؟؟ اعتداء جنسي؟؟ "
أجاب (سعيد) وهو يبلع ريقه:" أفظع .. لقد عثر عليه مذبوحا"
انتفض (حسن) في مكانه كمن تعرض لألف صعقة. يا للهول
قال (سعيد) وقد أشفق على (حسن) من التوتر الرهيب الذي بدا عليه. ثم قال:" انزع عنك الزي وعد إلى البيت. لا تغادره أبدا حتى نرى ماذا سيحدث"

لم يكذب (حسن) خبرا ونزع الزي غير آبه بالبرد القارس، جمعه في كيس أسود ورماه في أقرب قمامة وهو يسرع بالعودة إلى البيت. لم يخبر أحدا بالأمر وبدا متوترا للغاية ويكاد يقفز من مكانه كلما رن جرس الباب. حتى أن أباه سأله غير ما مرة على طاولة العشاء عما ألم به.


3
بعد العشاء جاء (سعيد) واستقبله (حسن) في غرفته بسطح المنزل. كان متوترا للغاية وقال أن الشرطة مشطت الشوارع من جميع المتنكرين وملأت سياراتها بهم.
"هل يعرف والدك؟" سأل (سعيد)
رد (حسن): " ليس بعد"
"يجب أن تخبره .. سنحتاج لمعارفه لنخرج من هذه الورطة .. فالقبض علينا صار مسألة وقت فقط"
"نحن لم نفعل شيئا"
"حين ينتبهون لذلك .. صدقني لن تكون بحال جيدة .. أنا في الجامعة منذ سنتين فحسب واعتقلت في مظاهرتين .. لم أشارك في أي منهما .. وترك الإعتقال في جروحا وذكريات غير محببة .. وانت تعرف أن هناك من مات في مخافر الشرطة"
"هل تعرف من صاحب تلك الفعلة الشنيعة ؟؟"
"يقولون أنه مدمن معروف ذو سوابق من الحي المجاور .. أفرط في الشرب أو تناول المخدر .. لا زال مختفيا عن الأنظار والشرطة تبحث عنه .. لكنني شخصيا لا أصدق .. فالرجل جبان جدا ولا يشكل خطرا حتى وهو في أقصى حالات السكر "
"وبقية الأولاد ؟؟ أين هم ؟؟"
" قبض عليهم كلهم .. كان الله في عونهم .. فقط نحن الثلاثة نجونا لحد الآن"
"نحن الثلاثة ؟؟ من تقصد بالثالث؟؟"
نظر (سعيد) بدهشة وقال :" (محمد) طبعا فهو لم يخرج اليوم من البيت .. لقد ارتفعت حرارته فجأة ليلة أمس، ولم يستطع أن يغادر الفراش"
ودون أن ينتبه لعلامات الذهول الصارخة على وجه (حسن) قال ساخرا بمرارة:
"يبدو أن وحش (بوجلود) أراد ان يرسل لنا رسالة تحذير .. بأن لا نعبث معه مرة أخرى .."

hanimos
24-10-2008, 15:05
شكرا على هده القصة الممتعة لغة و مضمونا (تقاليدنا )
تحياتي

الزبير
24-10-2008, 17:16
مشكور اخي الكريم على التذكير بالتقاليد التي كادت تندثر

عبد العزيز سيفاو
13-11-2008, 20:42
شكرا على رديكما وسعيد بأن القصة أعجبتكما

وفعلا تزخر بلادنا بمظاهر تراثية هائلة تستحق بل يجب أن نذكر بها

شكرا لكما مرة أخرى وأتمنى ان أكون عند حسن ظنيكما

نورالدين شكردة
13-11-2008, 21:45
لقد كنت عند حسن الظن وأكثر...
شدتني قصتك هذه واحييك على قدرتك الفائقة على تنويع وتطويع اللغة
دمت مبدعا