المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عشرة دراهم


عبد العزيز سيفاو
13-11-2008, 20:23
" ما الذي يفعله بالضبط ؟ "

يتردد السؤال في ذهنها وهي تراقبه بخوف
هادئا كان يداعب إبنهما (يوسف)
يخرج قطعة نقدية من جيبه
عشرة دراهم
حين رأتها شعرت بقشعريرة باردة تعبر جسدها كتيار قوي
يقذف بالقطعة في الهواء ليلتقطها على ظهر يده
ويقول لإبنهما (يوسف) :
- بيل أو فاس ؟
تشد على أسنانها بغيظ وألم
هو يفعل هذا عن قصد
يعذبها به
لم يتبادلا الكلام و لا مرة .. إنه حتى لم ينظر إليها
كما لو كان يتجاهل وجودها من الأساس

على طاولة الغذاء كان ينتظر
طفلهما (يوسف) بين ركبتيه
تضع الأطباق على المائدة وهي لا تكف تراقبه بنفس الذعر
يضحك بفرح غريب مع (يوسف)
يداعبه كما لم يفعل من قبل
ويخرج القطعة النقدية من جديد
على المائدة الخشبية المصقولة .. يدير القطعة بسبابته وإبهامه
وتدور حول نفسها القطعة النقدية
تدور..
تدور..
تزداد سرعتها مع كل دورة..
وتزداد..
وتزداد..
وهي تقوم بحركة لولبية فوق سطح المائدة..
قبل أن تتهاوى فجأة..
للصوت المعدني في أذنيها وقع مختلف..
رنان..
مؤلم..
يتناولان الغذاء دون أن يتبادلا كلمة
ينقل الطعام إلى طبق (يوسف) بنفسه ويحثه على الأكل
مستمرا في تجاهلها

كانت تحترق من الداخل ببطء
وألم
ترى (يوسف) وكأنه يتجاهلها بدوره
ألم يجد ضالته في صحبة أبيه؟
وهو الذي كان يعاني من فقدانه صحبته كثيرا
الآن هو معه طوال الوقت
لم تعرف كيف لم يذهب للشركة منذ خمسة أيام متتالية
لكنها استنتجت أنه طلب إجازة
ربما لأول مرة في حياته يطلب إجازة
تتساءل كيف سيمر اليوم وهما على هذه الحال؟
منذ خمسة أيام وهو على هذا الحال معها .. لا يغادر الشقة
يراقبها
يلهو بالقطعة النقدية .. ومع (يوسف)
يعذبها
ينتقم .. منها
كانت ترتجف لفكرة أنهم على موعد الليلة مع عائلتها
موعد الزيارة الشهرية لعائلتها
ما يعني أن عليها أن تعد طعام العشاء للعائلة
أبوها .. أمها .. أخوها .. زوجة أخيها..
لم ترد أن تطلب منه نقودا لشراء بعض الأشياء ..
لكنه فهم ما تفكر فيه

على طاولة المطبخ رأت المصروف الذي تركه هناك وهي تغسل الأطباق
المبلغ كله بقطع نقدية من نفس القيمة والنوع
عشرة دراهم
تراجعت بذعر لمرأى القطع النقدية
لن تحتمل هذا بعد
أرادت أن تبكي
أن تصرخ
لكن الدموع أبت أن تفر من عينيها
وكتمت صراخها بقوة القهر

نادت البواب ليشتري الحاجيات وعادت لتقوم بتنظيف الصالون

بينما هو كان يلهو مع (يوسف) على جهاز اللعب في غرفته

كان ضحكات الفتى تصل أذنيها
فتتعذب
تحترق حية كأنها في جحيم حقيقي

كان مائدة العشاء معدة على أحسن ما يكون الإعداد
وكان الجميع سعيدا .. نشيطا .. باستثنائها هي
حتى هو
يتحدث مع أبيها بحميمية غريبة ..
وكأنه يسخر منها
طبعا هو يسخر منها

لاحظ أخوها أنها ذابلة .. شعر بمعاناتها
لكنه لم يعرف كيف يتصرف
" لن يستطيع فعل شيء " .. قالت لنفسها
في وقت ما من العشاء .. أخرج زوجها القطعة النقدية
هنا جمدت مكانها من الرعب
تحول قلبها إلى مضخة قوية تضخ الماء المثلج في عروقها
تعلق كيانها كله بشفتيه
سأل ببراءة موجها كلامه لأبيها :
- هل تعرف يا عماه لماذا تبدو قطعة النقود وكأنها تدور بطريقة متسارعة على الطاولة ؟

وأعقب قوله بأن أدار القطعة المعدنية بسباته وإبهامه على السطح المصقول للمائدة

قال الأب وقد اندهش للسؤال :
- لا ... ربما لأنه خداع بصري؟

هز هو رأسه نفيا وقال بابتسامة :
- أخطأت يا عماه .. ليس بخداع بصري

كانت القطعة تدور حول نفسها متسارعة وراسمة مسارا لولبيا على الطاولة قبل أن تسقط فجأة بين الأطباق

وقال وقد جذب انتباه الجميع ..
واستغرابها الفزع :
- من العجيب أن يقف العلم حائرا أمام ألغاز فيزيائية بسيطة كهذه .. نفس العلم الذي اخترع القنبلة الذرية .. وأوصلنا إلى القمر ..

قال أخوها بفضول :
- أرني القطعة ..

وعاد يدير القطعة على سطح الطاولة والجميع يتابعها باهتمام غريب .. كانت القطعة تدور
وتدور
وتدور
ثم تسقط فجأة دون إنذار
وبينما ترتسم على ملامحهم علامات الإستغراب كمن يكتشفون شيئا جديدا
كانت هي تحترق
لم تعرف ما الذي يفعله بها بالضبط لكنه ينجح

وقال وقد سلب انتباه عائلتها كلهب شمعة يجذب الحشرات الليلية :
- في أبريل سنة 2000 قام الفيزيائي الإنجليزي (كيث موفات) بنشر أول دراسة نظرية حول دوران قطعة نقدية معدنية على سطح أفقي .. ولاحظ أنه لو لم يكن هناك فقدان للطاقة فنظريا لا تتوقف القطعة العدنية عن الدوران لأن سرعتها ستبقى ثابتة
ولكن .. في الواقع فالقطعة تدور بسرعة أكبر شيئا فشيئا أثناء حركتها على الطاولة قبل أن تتوقف بغتة .. استنتج( كيث) بأن هناك فقدان للطاقة .. وبوساطة حسابات ميكانيكية بين أن تلاشي طبقة الهواء المحصورة بين القطعة والطاولة كاف لتفسير الظاهرة
ستة أشهر بعد ذلك .. فندت فرضية (كيث) .. عندما قام الباحث الأمريكي (جير فان دير انج) بإعادة التجربة في الفراغ ولخص إلى أن وجود الهواء أو انعدامه لا يؤثر على الحركة الدورانية

كان الجميع يتابع درسه كمن يستمع لحكاية مسلية .. لم لا .. بعض الفيزياء لن يضر أحدا

أما هي فكانت تشعر بالقهر ..
وتكتم في صدرها
هذا كان واضحا في حركتها العصبية والهيستيرية وهي تضرب بالشوكة والسكين طبقها بعنف
لكن أحدا من عائلتها لم ينتبه لها

وانغمسوا في حديثه العلمي الغريب :
- منذ ذلك الوقت نشأ ميدان جديد في علم الديناميكا .. وأخذ الجميع يحاول وضع خاتمة للقصة
بين الفيزيائيان الأمريكيان (ألكسندر) و(كيرك ماكدونالد) في نهاية 2000 ، وبافتراض أن القطعة تدور على السطح الأفقي ولا تنزلق ، أن الاحتكاكات الداخلية تفسر نظريا الملاحظات التجريبية
وفي فبراير 2001 قام البولونيان (ألكسندر ستانيسلافسكي) و( كاتارزينا فيرون) بتحليل الطيف الصوتي الناتج عن دوران القطعة لكنهما لم يتوصلا لشيء جديد
وأخيرا في فبراير 2002 افترض الفيزيائيان الأمريكيان (باتريك كيسلر) و(أولوفر أوريلي) ، بحسابات معقدة ، أن تشوهات القطعة النقدية والسطح .. عوامل لا بد أن تؤخذ أيضا بعين الإعتبار
بعد هذا كله .. لا زال العلم حائرا .. عاجزا عن إيجاد حل نهائي للغز ..
لكنه ، كما اعترف كيرك ماكدونالد ، لابد أن يكون حلا معقدا جدا.

بعد نهاية كلامه .. كان الساعة الحادية عشرة
وكانوا جالسين في الصالون بعد أن شربوا الشاي

وكانوا يتبادلون الأنظار لبعضهم البعض
سألتها أمها عن سكوتها الغريب فأخبرتها أنها مرهقة فحسب
لكنهم كانوا يعرفون أن شيئا ليس على ما يرام مع زوجها
وكانت خائفة من أن يتكلموا معه بشأن هذا
لذلك تظاهرت بالنعاس
هنا .. قام الأب معلنا على رغبتهم في المغادرة
ورافقهم هو حتى باب العمارة
تبادل الأب كلمات مع الزوج وهي تراقبهم من نافذة الشقة التي ترتفع إحدى عشر طابقا
تراقبهم بتوتر
وخوف
حين عاد هو .. اطمأن على أن تامر ينام بعمق .. وقصد غرفة الضيوف ليطفئ النور من فوره
بينما هي تنظف الأطباق في المطبخ وتفكر في ما يجب أن تفعله
كانت تبكي بصمت
بحرقة
وبدأت ترى الوجود كله من حولها كأنما يعاقبها
حين نظفت المطبخ جيدا
مرت أمام غرفة ابنها
فتحت الباب
ألقت نظرة على (يوسف) النائم كملاك
ذرفت المزيد من الدموع بصمت
وخرجت ..
من الشقة.

كان الخارج باردا والنهر كئيبا كأنما يناديها لتنفذ ما عزمت عليه
وكانت تقف كالمحطمة على طرف الكورنيش
والريح الباردة خلفها تدفعها بخفة
هي أيضا تقدم لها دعما إضافيا

على الصفحة السوداء للنهر
والأنوار المتلألئة على سطحه كمئات القطع النقدية

وقبل أن ترمي نفسها

رأت كل شيء

رأت نفسها مع عشيقها في غرفة النوم وزوجها يدخل فجأة عليهما

لم يفعل شيئا
لم يقتلهما
أو يتصل بالشرطة

بقي ثابتا يرمقها بغضب

هي

هي فحسب

أمر العشيق بأن يغادر

لكنه استوقفه قائلا :- انتظر .. لقد قضيت وطرك منها .. ادفع لها

اندهش العشيق ونظر للزوج بخوف قبل أن تمتد يده لحافظة النقود بتوتر ويخرج رقة مالية

لكن الزوج فاجأه : - هذه مجرد مومس رخيصة .. ماذا تفعل ..؟؟ .. عشرة دراهم وحسب

عشرة دراهم

أعطى العشيق الدراهم لعشرة للزوج وغادر غير مصدق

عشرة دراهم

كل ما تساويه

عشرة دراهم

chamss
13-11-2008, 20:34
شكرا على القصة الرائعة

تحياتي

نورالدين شكردة
13-11-2008, 21:43
ماذا عساني ان أقول امام روعة ما انتهيت للتو من تذوقه وسبرأغوار معانيه ورموزه ...لن اقول لك شيئا بل سارفع لك قبعتي وسامنحك تحية عسكرية أدبية امنحها لاول مرة لأديب فنان فتاك قتال مثلك ...
قطعتك النقذية إن كانت قد مزقت أعصاب بطلة قصتك ودفعتها للإنتحار فلقد دفعتني شخصيا للإفتخار بانضمامك لمنتدانا الأدبي فأهلا ومرحبا وتحية عسكرية أدبية اخرى

أم ايمان
13-11-2008, 22:15
احسن عقاب يمكن ان يطبقه الرجل الذكي مع زوجة في منتهى الغباء ,زوجة خانت العهد و الثقة او كما يقال ذبور و زن على خراب عشه...التدمير الداخلي البطيء....سياسة حرق الاعصاب ....اقصى درجات التهميش و التجريح و التحقير بدون قول او كلام .....عقاب من هذا النوع يدفع المخطئة الى اعتبار الموت نجاة ............
اسلوب قوي و متين ....قصة محبكة جيدا ......و لها معاني و دلالات ......
هل سبق لك نشر احدى قصصك؟؟؟؟

الغِلاَق
13-11-2008, 22:38
أخي عبدالعزيز
تقبل مني تحية احترام وتقدير ..
قصتك تتخللها لقطات سينمائية شيقة ، و أتساءل عما إذا كنت مهووسا بالفن السابع؟
المقاطع التي تتحدث فيها عن دوران قطعة النقود في علاقتها مع استنفاذ الطاقة كانت المحور الأساس الذي استثارني؛إذ أنها تقنية متميزة لتمرير المعرفة العلمية عبر الأدب !
قصتك إذن تجمع ما بين العلم والأدب وهذا ما يضفي عليها طابعا خاصا .
أهنئك على قدراتك الأدبية،وهذا يزيدنا شراهة في انتظار مزيد من قصصك الجيدة.
مع خالص المودة ,

عبد العزيز سيفاو
14-11-2008, 09:47
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حقيقة لا أستطيع التعبير عن مدى سعادتي

chamss
العفو بل الشكر لك لردك الجميل
العزيز نور الدين شكردة
لا أستطيع التعبير عن مبلغ سعادتي واعتزازي وفخري بردك الذي لا أستحق نصف ما جاء به من إطراء
imanaton
لا لم يسبق لي نشر قصة حتى الان وإن كنت آمل نشر قصص رعب مع مجموعة من الأصدقاء المصريين قريبا، مما يؤسف له أن النشر لكتاب شباب أسهل في (مصر) بكثير من (المغرب)
elghilak
أسلوب ايصال المعرفة العلمية عن طريق قصة مثلا أو رواية هو اصلا اسلوب الخيال العلمي الذي اعشقه، ولشد ما يتقن كتاب أدب الشباب المصريون فعله كأب الخيال العلمي العربي (نبيل فاروق) ورائد أدب الرعب في العالم العربي (أحمد خالد توفيق)

mahdar
14-11-2008, 14:33
نص قصصي متين البنيان يشتمل على كل عناصر القصة من عقدة وصراع داخلي وخارجي حتى الوصول الى لحظة التنوير....الاكيد ان النص تضمن معلومات علمية تصب في خانة تحصيل الحاصل وقد استعملها الكاتب للرفع من درجة التشويق والاثارة فجاءت لتخدم سياق النص وتساهم في تراتبية الاحداث ...استطيع اناقول بان الاخ عبد العزيز ممسك بكل تقنيات القصة القصيرة ويستحق التشجيع على نصوصه الرائعة.....تقبل اخي اعجابي وتقديري...

غزال كلميم
14-11-2008, 18:54
قصتك رائعة وسردك للاحداث بطريقة مثيرة وشيقة...ايضا رائع
شكرا لك على المساهمة الاكثر من مميزة
في انتظار جديدك اخي الكريم