رشيد البعزاتي
30-11-2008, 22:07
ركام من الأزمنة المضيئة و المظلمة مرت , ومازالت الذكرى ساطعة فوق سماء ذاكرتي , مواقف عديدة في شريط حياتي تنبض معنى ومغزى , أضحت أجداثا بلا هوية ولا شاهد , وعناقيد مكتنزة من الأحداث المفعمة بالغبطة والسعادة جديرة بأن تكون وساما على صدر الذاكرة , لكنها انساقت وراء الغروب ولم تشرق في اليوم الموالي . أحيانا أتساءل لماذا تصر فقط هذه الذكرى على الحياة , دون أن تصاب بقدرية خريف العمر , أو تعتريها التعرية الجارفة , فتريحني وأريح راحتي , وأحيانا أخرى أعقد العزم على زيارة طبيب نفساني , فلعل ذكراي من الأفكار المتسلطة التي تستبد بالذاكرة فتوسوس لها قهرا حتى تتركها بلا حراك , لكنني أتراجع في الأخير بدعوى أن جذور وملابسات الذكرى أعمق وأبعد ما تكون نفسية .
أذكر -كما لو حدث اللقاء هذا الصباح -, لبست أجمل ما أملك حتى بدوت في عين الناظر مستحقا للتضامن , وانتقيت من العبارات و الأساليب ما يترك أذن السامع تتصبب انصاتا ورقة للصوت الحزين , ووضعت في الحسبان كافة الطقوس المحاطة بمقابلة مسؤول مغربي , بل وأبدعت بعناية فائقة وضعيات أخرى تليق بمقام السيد المحترم , لكن رهاني الأكبر كان على سلاح ذي مفعول خاص في تربة مغربية تسبح في مستنقع المفارقات , انه سلاح علم الأنساب , ولمن يهزه فضول المعرفة , فهو ابداع مغربي بحت , حيث يسمح باختراق الأبواب الموصدة مهما بلغت مناعتها , ويتيح أيضا لممتلكه الصعود بلا مرقاة , أو الطهي بلا مقلاة , وقلت في نفسي رب علم للأنساب أجدى نفعا من علم البورصة في عيون الفقراء .
وأنا أقترب من وجهتي , كنت شارد الذهن , منكسر الفؤاد , والخطو ورائي ينسج أشكالا لليأس , هناك على حائط البناية الرسمية علقت صدمتي الأولى السنة الماضية , صدمة الاحساس بلا معنى العدالة و الاستحقاق في وطني الموبوء بكائنات تلتهم الصغار لتكبر في عيون الليل , رمقت السيد المحترم خارجا , فأسرعت الخطو فقد يختفي وتنتهي مهمتي بلا ثمار , تقدمت نحوه في خطوات مترددة ثم بصعوبة نطقت ..
_ سلام الله عليكم
توقعت مسبقا أن لا يرد سلامي , فلم أكترث ولم أتأثر لأن المشهد الموالي كان معدا سلفا , فاسترسلت قائلا ..
_أنا فلان بن فلان , أكيد لا تعرفني لكن أباك فلان بن فلان , واخوتك الفلانيين وعائلتي من رحم واحد , ونلتقي معا في الجد السابع عشر.
بحذر أجابني ..
_كيف هي أحوالهم جميعا ؟ لابد أنك تحمل أخبارا جديدة.
جوابه المقتضب فتح لي شهية الكلام فقلت..
_ جئت مرسلا من طرفهم جميعا , حتى الجد السابع عشر يبلغ لك تحياته , كما تعلم سيدي -وتعمدت قول هذه العبارة حتى لا يتموقع خارج الدم - عائلتي فقيرة والشكوى لله ولأتقيائه على الأرض , أطلب منكم مساعدتي لاجتياز مباراة الأسبوع المقبل.
فكر مليا ثم أجابني..
_ لقد تأخرت يا ولدي , فات الأوان , لائحة المدعووين للوليمة أقفلت...انتظر...هناك ممر آخر في السرداب...اسمع...
_ سمعا وطاعة سيدي.
_ بناءا على شهادة ضعفك , وأخذا في الاعتبار دمنا الملتقي في الطابق السابع عشر , عليه تقرر أن تؤدي نصف الثمن , عد غدا في نفس الساعة ونفس المكان.
قبل أن يغلق باب سيارته , بادرته مستعطفا ..
_ سيدي نقطي مشرفة , وسجلي زاخر بعطاء ثقافي , ومع ذلك لم أفلح السنة الماضية...
قاطعني قائلا..
_ اسمع يا ولد , يبدو أنك مولع بالرومانسية , هنا لا تقف الأقدام على أرض واحدة , غدا في نفس الساعة ونفس المكان.
واسودت دنياي بدخان سيارته المنطلقة , ولم أملك حينها سوى ضحكة مدوية تسخر من الواقع اللئيم.
ومرت بعدها شهور معدودات , وشاءت سخرية الأقدار أن تجمعني بالسيد المحترم ثانية , ليس تسوية لثمن الأمس , بل تسوية لمشاكل أكبر من بخس الثمن. أذكر كنت مكلفا نيابة عن زملائي في مهمة , وكان السيد المحترم في مكتبه ينتظر قدومي , قرعت الباب فأذن لي بالدخول ,وحين التقت عيوننا حدث الانفجار الصامت , وقال الصمت النابع من الدهشة الفجائية ما تعجز قوله جميع العبارات. ودون أن يطلع على الملف المطلبي , نطق بكلمات مرتجفة..
_ ملفكم المطلبي سيسوى مباشرة غدا , مع خالص تحياتي.
وأنا خارج من مكتبه قلت في نفسي .. فليحذر الذين في بطونهم نارا من مكر التاريخ.
بقلم.. البعزاتي رشيد.
أذكر -كما لو حدث اللقاء هذا الصباح -, لبست أجمل ما أملك حتى بدوت في عين الناظر مستحقا للتضامن , وانتقيت من العبارات و الأساليب ما يترك أذن السامع تتصبب انصاتا ورقة للصوت الحزين , ووضعت في الحسبان كافة الطقوس المحاطة بمقابلة مسؤول مغربي , بل وأبدعت بعناية فائقة وضعيات أخرى تليق بمقام السيد المحترم , لكن رهاني الأكبر كان على سلاح ذي مفعول خاص في تربة مغربية تسبح في مستنقع المفارقات , انه سلاح علم الأنساب , ولمن يهزه فضول المعرفة , فهو ابداع مغربي بحت , حيث يسمح باختراق الأبواب الموصدة مهما بلغت مناعتها , ويتيح أيضا لممتلكه الصعود بلا مرقاة , أو الطهي بلا مقلاة , وقلت في نفسي رب علم للأنساب أجدى نفعا من علم البورصة في عيون الفقراء .
وأنا أقترب من وجهتي , كنت شارد الذهن , منكسر الفؤاد , والخطو ورائي ينسج أشكالا لليأس , هناك على حائط البناية الرسمية علقت صدمتي الأولى السنة الماضية , صدمة الاحساس بلا معنى العدالة و الاستحقاق في وطني الموبوء بكائنات تلتهم الصغار لتكبر في عيون الليل , رمقت السيد المحترم خارجا , فأسرعت الخطو فقد يختفي وتنتهي مهمتي بلا ثمار , تقدمت نحوه في خطوات مترددة ثم بصعوبة نطقت ..
_ سلام الله عليكم
توقعت مسبقا أن لا يرد سلامي , فلم أكترث ولم أتأثر لأن المشهد الموالي كان معدا سلفا , فاسترسلت قائلا ..
_أنا فلان بن فلان , أكيد لا تعرفني لكن أباك فلان بن فلان , واخوتك الفلانيين وعائلتي من رحم واحد , ونلتقي معا في الجد السابع عشر.
بحذر أجابني ..
_كيف هي أحوالهم جميعا ؟ لابد أنك تحمل أخبارا جديدة.
جوابه المقتضب فتح لي شهية الكلام فقلت..
_ جئت مرسلا من طرفهم جميعا , حتى الجد السابع عشر يبلغ لك تحياته , كما تعلم سيدي -وتعمدت قول هذه العبارة حتى لا يتموقع خارج الدم - عائلتي فقيرة والشكوى لله ولأتقيائه على الأرض , أطلب منكم مساعدتي لاجتياز مباراة الأسبوع المقبل.
فكر مليا ثم أجابني..
_ لقد تأخرت يا ولدي , فات الأوان , لائحة المدعووين للوليمة أقفلت...انتظر...هناك ممر آخر في السرداب...اسمع...
_ سمعا وطاعة سيدي.
_ بناءا على شهادة ضعفك , وأخذا في الاعتبار دمنا الملتقي في الطابق السابع عشر , عليه تقرر أن تؤدي نصف الثمن , عد غدا في نفس الساعة ونفس المكان.
قبل أن يغلق باب سيارته , بادرته مستعطفا ..
_ سيدي نقطي مشرفة , وسجلي زاخر بعطاء ثقافي , ومع ذلك لم أفلح السنة الماضية...
قاطعني قائلا..
_ اسمع يا ولد , يبدو أنك مولع بالرومانسية , هنا لا تقف الأقدام على أرض واحدة , غدا في نفس الساعة ونفس المكان.
واسودت دنياي بدخان سيارته المنطلقة , ولم أملك حينها سوى ضحكة مدوية تسخر من الواقع اللئيم.
ومرت بعدها شهور معدودات , وشاءت سخرية الأقدار أن تجمعني بالسيد المحترم ثانية , ليس تسوية لثمن الأمس , بل تسوية لمشاكل أكبر من بخس الثمن. أذكر كنت مكلفا نيابة عن زملائي في مهمة , وكان السيد المحترم في مكتبه ينتظر قدومي , قرعت الباب فأذن لي بالدخول ,وحين التقت عيوننا حدث الانفجار الصامت , وقال الصمت النابع من الدهشة الفجائية ما تعجز قوله جميع العبارات. ودون أن يطلع على الملف المطلبي , نطق بكلمات مرتجفة..
_ ملفكم المطلبي سيسوى مباشرة غدا , مع خالص تحياتي.
وأنا خارج من مكتبه قلت في نفسي .. فليحذر الذين في بطونهم نارا من مكر التاريخ.
بقلم.. البعزاتي رشيد.