المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأوقاف الإسلامية القديمة ودورها فـي النهضة التعليمية والثقافية


brid
11-03-2009, 10:04
مداخلة أولية :- في هذه المقالة المتواضعة نحاول الحديث عن بعض الأوقاف الإسلامية القديمة في كل من : بلاد الشام ومصر والعراق كنماذج للأوقاف الإسلامية ، ودورها في النهضة التعليمية والثقافية ، وذلك على أيام الدولة العباسية (المأمون ) ، والدولة السلجوقية (نظام الملك) , والدولة النورية (نور الدين محمود) , والدولة الفاطمية (الحاكم بأمر الله) , والدولة الأيوبية (صلاح الدين الأيوبي) ، وقد كان تحديد البحث بهذه الفترات ، لأن الحديث عن الأوقاف الإسلامية ودورها الثقافي والتعليمي بوجه عام ، يتطلب منا الحديث عن الأوقاف الإسلامية قديماً وحديثاً ، وكذلك الحديث عنها في بلاد إسلامية مثل:بلاد السند،ودول المغرب العربي ، وفي بلاد أخرى سكن فيها الإسلام مدة من الزمن مثل الهند وبلاد الأندلس , وبعض الدول الغربية التي توجد فيها أوقاف إسلامية ، وهذا يتطلب دراسة موسعة لا يستطيع مقالنا المتواضع أن يفي بها ، فلعلنا نوفق في الكتابة عن الفترات والبلاد التي حددناها .بيت الحكمة والأوقاف : قبلإنشاءبيت الحكمة ( أول مؤسسة ثقافيةتعليميةعند المسلمين ) والذي أعلن فاعلياته الثقافية المأمون العباسي ( 218 هـ ) بعد أن أسسه والده الخليفة / هارون الرشيد ، كان الراغبون في العلم يسعون إلى منازل وبيوت الشيوخ والعلماء للسماع منهم ، أضف إلى ذلك المسجد الذي كان دائماً مكاناً للعبادة والعلم . ولهذا السبب لم تكن هناك نفقات معينة تبذل في سبيلنشر العلوم والمعارف ، فلما ظهرت الحاجة إلى تأسيس مكان يخصص لرعاية العلم ونشر الثقافة ، ظهرت في الوقت نفسه فكرة أن يوقف (الوقف) على هذه المؤسسة الثقافية التعليمية , وقف يُنتج إيراداً يكفي للإنفاق على شئونه اوشئون القائمين بالعمل فيها . [أحمد شلبي ، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي ، ص 373 ، بتصرف] . إذن كان المأمون العباسي الذي يعد بحق رائداً لنشر الثقافات والمعارف في العصر العباسيهوأول من أبرز هذه الفكرة للوجود ، فإنه لم يشأ أن يكون نشاط بيت الحكمة متوقفاً على سخاء الخلفاء والأمراء ، بل أراد أن يجعل نشاطه قوياًمتجدداًمتصلاً سواء أكان الخليفة كريماً أم شحيحاً .ومن هنا هيأ للعلماء رزقاً سخياً يتقاضونهمن وقف ثابت يفيض ريعه عليالتكاليف المطلوبة لهذه المؤسسة الثقافية التعليمة .[سيد أمير علي ، مختصر التاريخ الإسلامي ، ص 274 ]. وانتشرت فكرة المأمون هذه بين من خلفه من الخلفاء والقادة والزعماء فأصبح من ضروريات إنشاء معهد ثقافي أو مدرسة أن يعين لها وقف ثابت ، تتلقى منه ما يفي بنفقاتها ، وما يمدها بما تحتاج من مصروفات . ثم تطور هذا الاتجاه الإيجابي ، فظهرت الأوقاف أيضاً على الذين يشغلون أنفسهم بخدمة العلم و التعليم والثقافة في المساجد ، بل إن بعض الأركان أو الأعمدة بالمساجد كان يوقف عليها أوقاف سخية يصرف ريعها إلى من يجلس بها للتدريس والتعليم . وسوف نحاول في سطورنا القادمة أن نقدم عرضاً سريعاً لنماذج من الأوقاف الإسلامية القديمة في كل من بلاد الشام ، ومصر ، والعراق ، محاولين إظهار دورها في خدمة العلم والثقافة , محددين كلامنا بأيام الدولة العباسية ، وأيام الدولة السلجوقية ، وأيام الدولة الفاطمية ، وأيام الدولة الأيوبية ، كما ذكرنا في مقدمة المقال . المدارس النظامية : يقول ابن خلكان في كتابه (الوفيات ، 1 / 202 ) : إن نظام الملك (485 هـ) ، هو أول من أنشأ المدارس فاقتدى به الناس . ولكن السبكي في (طبقات الشافعية ، 3 / 137) ، والمقريزي في (الخطط ، 2 / 363) ، يذكران لنا أن نظام الملك ليس هو أول من أنشأ المدارس في الإسلام ، فقد وجدت المدرسة البيهقية في نيسابور قبل أن يولد نظام الملك ، والمدرسة السعيدية بنيسابور أيضاً ، بناها أبو سعيد إسماعيل بن علي ، ومدرسة أخرى بنيت للأستاذ / أبي إ**** الإسفرائيني في نيسابور كذلك . ويحاول السبكي في طبقاته وفي نفس الموضع السابق أن يوفق بين الرأيين فينسب إلى نظام الملك ، أنه كان أول من قدر المعاليم للطلبة ، فكأن المقصود بإنشاء المدارس هو تقدير هذه المعاليم ، وصرفها للطلبة !! [أحمد شلبي ، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي ، ص 366 ، بتصرف] . وفي رأينا المتواضع : أننا لا نوافق على ما اقترحه السبكي من أن المراد هو أن نظام الملك الوزير السلجوقي يعد أول من قدر المعاليم لطلاب العلم ، وقول ابن خلكان السابق صريح في أن نظام الملك هو أول من أنشأ المدارس ، وليس أول من قدر المعاليم ، ثم أن العزيز بالله الفاطمي سبق نظام الملك بقرن تقريباً في تقدير هذه المعاليم للطلاب . [المقريزي ، الخطط , 2 / 241] . المشكلة إذن هي : هل كان نظام الملك أول من أنشأ المدارس أم لا ؟ ، الجواب عندي بالإيجاب ، إذا أريد المعني الفني الدقيق لكلمة مدارس ، وأما ما نطلق عليه كلمة مدارس (مجازاً) ، مما ظهر قبل نظام الملك هو جهد متواضع ، لم يعمر طويلاً , ولم يكن قوي الأثر في الحياة الإسلامية ، وهذا الجهد المحدود ظهر قبل مدارس نيسابور بعهد طويل . فالذي ينسب إلى نظام الملك هو هذه النهضة التعليمية التي لم تتوقف قط ، هو هذا النظام الذي وضع لتعليم المسلمين في جميع البقاع , هو هذه الشبكة من المدارس التي انتشرت في القرى والكفور والمدن ، ولا يستطيع إنسان أن يدعي أنه يجاري نظام الملك في هذا المضمار .[أحمد شلبي ، مرجع سابق ، ص 367 ، بتصرف] . لقد بنى نظام الملك المدارس والربط والمساجد في أنحاء البلاد , وأمدها بما تحتاج من كتب ، وعين لها المدرسين والخدم ، وفتح أبوابها على مصرعيه لكل من أراد أن يطلب العلوم والمعارف ، كما بذل لها العطايا الكريمة ، وأوقف عليها الأوقاف السخية التي تكفيها على مر الأيام ، فأحيا بذلك معالم الدين الداعي إلى العلم والمعرفة ، ونشط من العلم وأهله ما كان خاملاً في أيام من قبله . فإنشاء المدارس إذاً إنما هو واحد من أفضال نظام الملك وأياديه ، ومأثرة ترجع له وحده ، ولا ترجع إلى سواه ، ومن هنا تنتسب مثل هذه المؤسسات إلى أعظم شخصية في الدولة ، وعليه فإن تسمية المدارس النظامية مطابقة لهذه القاعدة ، فما كان في الدولة على ذلك العهد من يجاري نظام الملك ، أو يناظره . وقفية نظامية بغداد: كان نظام الملك أول من أنشأ المدارسـ كما ذكرنا ـ، وعندما اختلف مع السلطان السلجوقي / ملكشاه ، اغتيل في ظروف غامضة ، وبنهايته الأليمة كانت نهاية أخرى أكثر ألماً تنزل بمدارسه ( المدارس النظامية ) ، حيث توقف العمل بها تماماً ، بل أن بعضها مثل نظامية بغداد اختفت في ظروف غامضة ، واغتُصب مكانها منذ عهد سحيق ، فلم يعد معروفاً حتى وقتنا هذا على وجه الدقة للباحثين والدارسين . ويبدو ـ للأسف الشديد ـ إن هذه النهاية الأليمة لم تلحق بالبناء فقط ، وإنما بكثير مما كتب عنه أيضاً . فقد كان مما ضاع على الباحثين هذه الوثيقة المهمة التي كتبت فيها وقفية نظام الملك على مدارسه . لقد ورد ذكر هذه الوثيقة في عدة مراجع ، ولكن الباحثين قديماً وحديثاً لم يستطيعوا أن يحصلوا عليها أو على نصها . وعلى كل حال فلدينا من المصادر ما يمدنا في هذا الموضوع بمعلومات ، إن لم تكن كاملة فهي قريبة بعض الشيء من الكمال . * يقول سبط الجوزي في كتابه (مرآة الزمان، 2 / 121): وفيها ( أي في سنة 462 هـ ) أوقف نظام الملك الأوقاف على النظامية ، وحضر الوزير والقضاة والعدول ببيت النوبة ، وكتبوا الكتب وسجلت ، ومما وقف:سوق المدرسة ، وضياع ، وأماكن ، وشرط نظام الملك الشروط المعروفة .* ويذكر أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في كتابه (المنتظم في تاريخ الأمم والملوك ، 8 / 256) ، عن حوادث نفس السنة ( 462 هـ ) : إنه في يوم الأثنين 26 من جمادى الآخرة جمع العميد أبو نصر الوجوه ، فأحضر أبا القاسم ابن الوزير فخر الدولة والنقيبين والأشراف ، وقاضي القضاة والشهود إلى المدرسة النظامية وقرئت كتب وقفيتها ، ووقف الكتب فيها ، فكان من الوقف ضياع وأملاك وسوق أقيمت على بابها . * وهذا هو الرحالة / ابن جبير يرى و يكتب لنا في رحلته (رحلة ابن حبير ، 239) :أنه رأى ببغداد نحواً من ثلاثين مدرسة ، ويقول : إنه ما فيها مدرسة إلا وهي يقصر القصر البديع عنها ، وأعظمها وأشهرها النظامية التي بناها نظام الملك ، ولهذه المدارس أوقاف عظيمة ، وعقارات واسعة للإنفاق على الفقهاء والمدرسين بها ، وللإجراء على الطلبة . أما ما خصص من المال لرعاية الشئون الثقافية على العموموكذلك ريع الأوقاف المعينة للمدارس ، فإن المراجع التي بين أيدينا أو المتاحة لنا، أوردت تفصيلات مفيدة ونافعة للباحثين ، نقتبس منها الآتي :ـ · كان نظام الملك ينفق في السنة الواحدة على التعليم ما يقدر بـ ( 600000 ) دينار.[ناجي معروف ، المدرسة المستنصرية ، ص 8]· أما الريع الذي كانت تنتجه الأوقاف المخصصة لنظاميةبغداد ، فقد ورد أنه كان 15000 دينار في العام الواحد . [محمد عبده ، الإسلام والنصرانية ، ص 98] · وقد كان ذلك الريع كافياً لمرتبات الشيوخ ولما يدفع للطلبة ، وكان يشمل مؤونة طعامهم وملابسهم وفرشهم,وغير ذلك من ضرورات معاشهم حتى نبغ فيها جمع من الفقهاء الأفاضل ممن لا يحصون عددا [الألوسي ، تاريخ مساجد بغداد ، ص 102].· أما أوقاف نظام الملك على نظامية أصفهان فقد بلغت 10000 دينار سنوياً .[سعيد نفيس ، مدرسة نظامية بغداد ، ص 3] . ويجدر بالذكر هنا أن من أوفى التراجم التي كتبت عن الوزير / نظام الملك تلك التي كتبها العلامة / السبكي في كتابه : ( طبقات الشافعية ، 3 / 135 ـ 145 ) وقد كتبت بإسلوب رائع ، وصورت الرجل على أنه من أعظم المصلحين الاجتماعيين في الإسلام ، وأن شخصيته من أقوى الشخصيات التاريخية ، ونحن نحبذ أن يعتمد أي باحث في الكتابة عن نظام الملك على ما كتبه السبكي ، وكذلك على ما كتبه عماد الدين الأصفهاني ، وابن الأثير ، وابن خلكان ، وابن الجوزي ، لتعم الفائدة بإذن الله .رجل يرعى العلم والتعليم : كانت مملكة نور الدين محمود زنكي في سوريا أقوى مملكة قامت على أنقاض السلاجقة ، وقد خلد نور الدين اسمه كبطل من أبطال المسلمين في حروبهم ضد أدعياء حماية الصليب . واستطاع نور الدين أن يضم إلى سمعته الحربية مكانة كمصلح اجتماعي كبير ، ومن أبرز إصلاحاته في هذا المجال رعايته لشئون العلم والتعليم ، فلقد أعد مملكته لتواصل حركة النشاط الذي بدأه الوزير السلجوقي / نظام الملك ، أو لتتلقى عن العراق وخُراسان ما ضعفتا عن حمله ، وذلك بعد انهيار دولة السلاجقة . [يسري عبد الغني ، يا نور الدين ... ، ص 5 وما بعدها] . ومن هنا جاءت أهمية الدور الذي قام به نور الدين فهو لم يكن راعياً للعلم فقط ، وإنما كان مشرفاً على نهضته وحامياً لها حتى أسلمها إلى خلفه صلاح الدين ، وفي رأينا أنه لولا نور الدين وجهوده لخيف على هذه النهضة أن تفنى وتتلاشى وتضيع ، ولكن الرجل واصل السير في الطريق الذي بناه سلفه ، فبنى في بلاد الشام ولأول مرة العديد من المدارس التي فتحت أبوابها لطلاب العلم من كافة المستويات والطبقات ، في نفس الوقت الذي فتح فيه قلبه ومعاهده العلمية للمدرسين والعلماء والفقهاء الذين ضاقت بهم أرض العراق وخراسان ، بعد ما حل بها من شقاق واضطراب . وهكذا كان نور الدين هو حلقة الاتصال بين نظام الملك السلجوقي الذي غرس النهضة التعليمية والعلمية ، وصلاح الدين الأيوبي الذي كتب على يديه لهذه النهضة البركة والنماء .المدرسة النورية وأوقافها : أما فيما يتعلق بالأوقاف على المدرسة النورية الكبرى التي بناها نور الدين محمود في دمشق السورية ضمن المدارس الأخرى العديدة التي شيدها , فقد سجلت هذه الأوقاف على الحجر الذي يكون العتبة العليا لباب المدرسة ، والكتابة الموجودة عليها واضحة ويمكن قراءتها حتى يومنا هذا . * وفي هذه الوثيقة ، وبعد البسملة ، نعرف أن الذي أمر ببناء هذه المدرسة هو الملك العادل الزاهد / نور الدين أبوالقاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر (ضاعف الله ثوابه) . * ونعرف أنه أوقفها على أصحاب الأمام سراج الأمة أبي حنيفة (رضي الله عنه) ، ووقف عليها ، وعلى الفقهاء والمتفقهة بها جميع الحمام المستجد بسوق القمح ، والحمامين المستجدين بالوراقة , والوراقة بعوينة الحمى ، وجنينة الوزير ، والنصف والربع من بستان الجورة بالأرزه ، والأحد عشر حانوتاً خارج باب الجابية ، والساحة الملاصقة من الشرق ، والتسعة حقول بداريا ، على ما نص وشرط في كتب الوقف رغبة في الأجر والثواب ، وتقدمه بين يديه يوم الحساب . * ويضيف : فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ، إن الله سميع عليم ، وذلك في مدة أخرها شعبان سنة سبع وستين وخمسمائة . ومعنى ذلك هو : أن هذه الأوقاف تسلم إلى المدرسة النورية الكبرى بدمشق ، في خلال مدة أخرها شهر شعبان سنة 567 هـ . إن هذه الوثيقة التي احتفظ لنا التاريخ بها لوثيقة مهمة تبين لنا بوضوح الأوقاف التي عينها نور الدين للمدرسة النورية الكبرى ، وقد ظهر منها أن ريعها الوفير كان يكفي للإنفاق على الطلاب والمدرسين إنفاقاً سخياً متواصلاً.ويمكن لنا أن نعطي مثالين آخرينلنؤكد هذه الحقيقة :المثال الأول: فقد ذكر المؤرخ / أبو شامه ف كتابه (الروضتين، 1 / 16) : أن نور الدين وقف على المدارس الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية ، وعلى أئمتها ومدرسيها وفقهائها أوقافاً كافية .المثال الثاني :ويقول الرحالة / ابن جبير (رحلة ابن جبير، ص 285) : إن من مناقب نور الدين محمود أنه عين للمغاربة الذين كانوا يلحقون بزاوية المالكية بالمسجد الجامع أوقافاً كثيرة ، منها : طاحونتان ، وسبعة بساتين ، وأرض بيضاء ، وحمام ، ودكانان بالعطارين ، وجعل أحد هؤلاء المغاربة مشرفاً على هذه الأوقاف .الأوقاف في مصر وبلاد الشامعلى أيام الفاطميين: نحب أن ننبه هنا إلى أن أي حديث عن موضوع الأوقاف وأثره على النهوض بالتعليم والثقافة في مصر ، يجب أن يشمل الحديث عن بلاد الشام ( سوريا ، ولبنان ، المملكة الأردنية الهاشمية ، فلسطين العربية ) ، وذلك لأن نفوذ الفاطميين والأيوبيين والمماليك امتد إلى بلاد الشام العربية الإسلامية في فترات طويلة من حكم هذه الأسر ، وعليه فسنذكرأمثلة من الأوقاف في بلاد الشام خلال كلامنا عن الأوقاف في مصر . نقول : لقد وجدت الأوقاف على التعليم في مصر قبل عهد الوزير السلجوقي / نظام الملك ، وقبل ونور الدين محمود زنكي ، بوقت طويل . *ففي سنة 378 هـ ، و في عهد العزيز بالله الخليفة الفاطمي أصبح الأزهر معهداً علمياً أكثر منه مسجداً . [استانلي بول ، القاهرة ، ص ص : 121 ـ 123 ] . * ولذلك نجد أن الوزير الفاطمي / يعقوب بن كلس يسأل الخليفة العزيز بالله في تحديد أجور لجماعة من الفقهاء ، فأطلق لهم ما يكفي كل واحد منهم من الرزق نقداً ، وأمر لهم بشراء دار وبنائها فبنيت بجانب الجامع الأزهر ، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع ، وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلى العصر,وكان لهم أيضاً من مال الوزير صلة . [المقريزي ، الخطط ، 2 / 273] . * فلما جاء الخليفة الفاطمي / الحاكم بأمر الله عمد إلى الأوقاف يعينها للإنفاق من ريعها على المساجد والمؤسسات الثقافية ، فلقد أوقف على الجامع الأزهر ، و الجامع براشدة ، ودار العلم ، أوقافاً عظيمة ذكرها في سجل أشهد عليه قاضي القضاة / مالك بن سعيد الفاروقي . * ويقول المقريزي في (خططه، 2 / 273 ـ 274): كانت الأوقاف عن جميع الدار المعروفة بدار القرب ، وجميع القيسارية المعروفة بقيسارية الصوف ، وجميع الدار المعروفة بدار الخرق الجديدة ، ويؤكد الحاكم بأمر الله الفاطمي على أن هذه الوقفية دائمة للأبد ، لا يوهنها تقادم السنين .صلاح الدين والنهوض بالتعليم والوقف عليه : الحديث عن صلاح الدين الأيوبي ، مؤسس الدولة الأيوبية ، حديث متشعب النواحي ، ومجاله خصب في أي ناحية من نواحيه ، ولكنا نريد في هذه الإلمامة السريعة المقتضبة أن نذكر المعنى الذي سبقت الإشارة إليه ونحن نتكلم عن نور الدين محمود ، فإن صلاح الدين كان أولاً قائداً من قادة نور الدين محمود ، ثم حكم مصر باسمه ، ثم خلفه على عرش مصر , ثم عرش بلاد الشام ، ومن هنا يظهر بوضوح سبب التشابه بين صلاح الدين ونور الدين والذي يحلو للعديد من المؤرخين الحديث عنه . [يسري عبد الغني ، يا نور الدين ... ، ص 14 وما بعدها ] . لقد تلقى صلاح الدين غرس النهضة من سلفه ، فشيد لأول مرة المدارس في مصر وفي سبيل العلم والفضل كانت تهون عليه نفقات بيوت المال .[ابن جبير ، رحلة ابن جبير ، ص 58 ] . قال صلاح الدين للخيوشاني المشرف على إحدى مدارسه : " زد احتفالا وتأنقاً ، وعلينا القيام بمئونة ذلك " [ابن جبير ، المرجع السابق ، ص 48] .أهمية حفظ التراث : ودخول المدارس إلى مصر ليس أمراً سهلاً لمن يكتب عن التعليم والثقافة ، لأن معناه في التحليل الأخير حفظ ذلك التراث من غوغاء التتار الذين اجتاحوا معظم أنحاء العالم الإسلامي ، وأوقفوا كثيراً من مظاهر الرقي فيه ، وكان كرم صلاح الدين وسخاءه على العلم والتعليم داعياً لجذب العلماء والطلاب لا من العراق فحسب بل من شمالي أفريقيا أيضاً ، حيث كانت مصر في منتصف المسافة ، فرحل لها من هنا وهناك جمهرة كبيرة وجدوا في صلاح الدين ملكاً باراً كريماً وحامياً عظيماً , فجمعهم الإحسان الصلاحي ، على حد قول عبد اللطيف البغدادي في كتابه [الإفادة والاعتبار ، ص 16]. وعندما جاء الأيوبيون إلى مصر نقلوا معهم حماسة الوزيرالسلجوقي / نظام الملك ، وحماسة نور الدين زنكي ، وحمايتهما للعلم ، ثم وجدوا أنفسهم في مصر,أمام تراث الفاطميين العريق ، ومدنيتهم العريضة , التي كان الفن والعلم من أنضر فروعها الوارفة. لقد حافظ الأيوبيون على هذا التراث المزدوج ، ورعوا العلم ، وما بخلوا يوماً ، وما قتروا ساعة في الإنفاق عليه ، فأنشأوا الكثيراً من المدارس والمعاهد ، وأوقفوا عليها الأوقاف السخية . وفي نفس الوقت ظهرت موجة من التنافس الشديد في هذا المضمار ، حيث أخذ فيها الأمراء والعلماء بنصيب ملحوظ ، وحظ وافر . وسوف نحاول في سطورنا القادمة أن نعطي لك أمثلة موجزة لهذه الأوقاف ، ودورها في خدمة العلم والثقافة والمعرفة .* يقول ابن جبير : إن كل مسجد يستحدث بناءه أو مدرسة أو خانقاه ( الخانقاه أو الخانكاه كلمة فارسية الأصل جمعها في العربية خوانق ، ومعناها : دار موقوفة لسكنى الزهاد والصوفية والعباد ) ، يعين لها السلطان / صلاح الدين أوقافاً تقوم بها وبساكنيها والملتزمين بها . [ابن جبير ، رحلة ابن جبير، ص 275].* ويضيف المقريزي : أن صلاح الدين عندما بنى المدرسة الناصرية بالقرافة وقف عليها حماماً بجوارها ، وفرناً تجاهها ، وحوانيت بظاهرها ، والجزيرة التي يقال لها جزيرة الفيل ببحر النيل خارج القاهرة .[المقريزي ، الخطط ، 3 /264] .الناس كملوكهم : واقتدى بصلاح الدين غيره ممن أنشأوا المدارس ورعوا العلم في العهد الأيوبي ، ومن هؤلاء نذكر : ـ* تقي الدين عمر بن شاهنشاه الأيوبي الذي اشترى منازل العز التي كانت تشرف على النيل,ومعدة لنزهة الخلفاء الفاطميين , ثم جعلها مدرسة للفقه الشافعي ، ووقف عليها الحمام وما حولها ، وبنى فندقاً بفندق النخلة ووقفه عليها ، ووقف عليها جزيرة الروضة التي كان قد اشتراها من قبل. [المقريزي ، الخطط ، 3/ 364]* ومن المدارس التي حظيت بوقف سخي المدرسة الدماغية بدمشق السورية ، وكانت داراً لشجاع الدين بن الدماغ ، فلما مات جعلتها السيدة زوجته مدرسة للشافعية والحنفية ، ووقفت عليها ثمانية أسهم من أربعة وعشرين سهماً من المزرعة الدماغية ، والحصة من رجم الحيات ، والحصة من حمام إسرائيل خارج دمشق ، والحصة بدير سلمان من المرج ، ومزرعة شرخوب عند قصر أم حكيم ، ومحاكرات ، وغير ذلك . [النعيمي ، الدارس ، 1 / 236 ـ 237 ]. زوايا جامع عمرو بن العاص :ويذكر لنا المقريزي ثمانية من زوايا جامع عمرو بن العاص التي كانت تقام بها حلقات تعليمية ، ويشير إلى الأوقاف التي وقفت على كل من هذه الزوايا ، وفيما يلي موجزاًببعضها : ـ 1 ـ زاوية الإمام الشافعي التي درس بها فعرفت به،ووقفت عليها أرض بناحية سندريس، ووقفها السلطان الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين الأيوبي .2 ـ الزاوية الكمالية بالمقصورة المجاورة لباب الجامع الذي يدخل إليه من سوق الغزل ، ورتبها كمال الدين السمنودي ، وعليها فندق بمصر موقوف عليها .3 ـ الزاوية التاجية أمام المحراب الخشب ، رتبها تاج الدين السطحي أو المسطحي ،وجعلها دورا بمصر موقوفا عليها . [المقريزي ، الخطط , 2 / 255 ـ 256] . ** وهكذا كانت الأوقاف في عالمنا الإسلامي في الأعم الأغلب هي المورد الذي ينفق منه على التعليم وعلى المؤسسات الثقافية التي تقدم خدمة مجانية لعامة الناس ، ولكن في بعض الحالات كانت نفقات التعليم والثقافة تدفع بشكل مباشر من الخزانة العامة للدولة ، وقد ذكر المؤرخون أن الوزير الفاطمي / يعقوب بن كلس كان يجري بتوجيهات من الخليفة الفاطمي / العزيز بالله ألف دينار في كل شهر على جماعة من أهل العلم والوراقين والمجلدين . [آدم ميتز ، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ، 1 / 294]. ومنالأمثلة التي تدعو للعجب والدهشة ما رواه لنا الرحالة / ابن بطوطة من أن أحمد ملك ( إيذج ) كان يقسم خراج بلاده أثلاثاً ، ويجعل الثلث لنفقة الزوايا والمدارس . [ابن بطوطة ، تحفة النظار ، 2 / 31]. وقفية ست الشام : وفي ختام هذاالمقالالمتواضع نحب أن نورد وقفية مهمة هي تلك التي وقفتها ست الشام أخت السلطان / صلاح الدين الأيوبي على المدرسة الشامية الجوانية ، وبكل أسف فإن هذه المدرسة قد خربت ، واتخذت داراً ، ولكن بقي منها بابها القديم ، وقد كتب على عتبته العليا نص الوقفية ، وتمتاز هذه الوقفية فوق أن مرجعها هو النص المكتوب على العتبة,وهو مرجع موثوق به تماماً , بأنها وقفية مفصلة دقيقة .[أحمد شلبي ،التربية والتعليم في في الفكر الإسلامي ، ص 380 , بتصرف ].ونحب أن نشير هنا إلى أن طريق إنفاق ريع الأوقافالخاصة بست الشام ،ورد مفصلاً فيمرجع مهم وهو كتاب تاريخ مدارس دمشق ، للعلامة / النعيمي . [1 / 202 ـ 203] . يقول نص وقفية ست الشام : " بسم الله الرحمن الرحيم : هذه مدرسة الخاتون الكبيرة الآجلة عصمة الدين ست الشام أم حسام الدين بنت أيوب بن شادي رحمها الله ، وقفتها على الفقهاء والمتفقهة من أصحاب الإمام / الشافعي ( رضي الله عنه ) ، والموقوف عليها وعليهم وعلى ما يتبع ذلك ، جميع القرية المعروفة ببزينة ، وجميع الحصة وهي أحد عشر سهماً ونصف من أربعة وعشرين سهماً من جميع المزرعة المعروفة بجرمانا ، وجميع الحصة وهي أربعة عشر سهماً من القرية المعروفة بالتينة ، ونصف القرية المعروفة بمجيدل السويدا ، وجميع القرية المعروفة بمجيدل القرية ، وذلك في سنة ثمان وعشرين وستمائة " . ** أما الإنفاق على هذه المدرسة فقد وضع على النحو التالي : ـ أولاً ـ يبدأ في الإنفاق بعمارة المدرسة ، وثمن زيت ، ومصابيح ، وحصر ، وبسط ، وقناديل ، وشمع ، وما تدعو الحاجة إليه .ثانياًـ يدفع للمدرس غرارة من الحنطة ، وغرارة من الشعير ، ومائة وثلاثون درهماً فضة ناصرية .ثالثاًـ عشر الباقي يصرف إلى الناظر عن تعبه وخدمته ومشارفته الأملاك الموقوفة وتردده عليها .رابعاًـ إخراج ثلثمائة درهم فضة ناصرية في كل سنة ، تصرف في ثمن بطيخ ومشمش وحلوى في ليلة النصف من شعبان على ما يراه الناظر .خامساًـ الباقي يصرف إلى الفقهاء والمتفقهة,والمؤذن , والقيم المعد لكنس المدرسة ورشها وفرشها وتنظيفها وإيقاد مصابيحها ، ويعطى هؤلاء على قدر استحقاقهم على ما يراه الناظر في أمر هذا الوقف من تسوية وتفضيل وزيادة ونقصان وعطاء وحرمان . هذا وقد ذكرت الواقفة أن من شرط الفقهاء والمتفقهة والمدرس والمؤذن والقيم أن يكونوا جميعاً من أهل الخير والدين والصلاح والعفاف وحسن الطريقة وسلامة الاعتقاد والسنة والجماعة . كما شرطت ـ رغبة منها أن يظل الملتحقون بالمدرسة في مستوى مالي لائق , و ألا يزيد عدد الفقهاء والمتفقهة المشتغلين بهذه المدرسة عن عشرين رجلاً ، من جملتهم المعيد بها والإمام ، بخلاف المدرس والمؤذن والقيم إلا أن يوجد في ارتفاع الوقف نماء وزيادة وسعة ، فللناظر أن يقيم بقدر ما زاد ونما.[النعيمي ،الدارس ، نفس الموضع السابق ، بتقديم وتأخير من جانبنا ] والله ولي التوفيق ,,