منتديات دفاتر التربوية التعليمية المغربية

منتديات دفاتر التربوية التعليمية المغربية (https://www.dafatir.net/vb/index.php)
-   القصص والروايات (https://www.dafatir.net/vb/forumdisplay.php?f=75)
-   -   الــلـــوحـــة (قصة قصيرة ) (https://www.dafatir.net/vb/showthread.php?t=80754)

الغِلاَق 08-04-2009 18:53

الــلـــوحـــة (قصة قصيرة )
 
أخيرا بعد جهد جهيد وكد شاق انتهى الفنان "شعيب" من وضع آخر اللمسات على لوحته العظيمة .. ابتعد عنها لخطوات ثم وقف يتأملها مليا بعينين غائرتين مجهدتين ، يلفهما الاحمرار .. انتابه شعور عارم بالسعادة والفخرلدرجة افترار ثغره عن ابتسامة رضى وإعجاب ، سارع إلى كتمها مخافة استسلام نفسه للغرور المميت ..
تنحى عنها جانبا،وجعل يسير في جل الاتجاهات،دانيا منها تارة،مبتعدا أخرى دون أن يزحزح عينيه عنها..
كم من اللوحات أبدع وما من لوحة سحرت نظراته مثلما سحرتها هذه !.. يخالجه إحساس عميق بالرضى،وتغمره مشاعر متفرقة عما يعتزم على فعله بها؛هل سيبيعها ؟وبأي ثمن ؟أم هل سيحتفظ بها لما تشهد عليه من قمة في الدقة والإبداع ؟وما أوحت به له صاحبتها ذاك المساء الخريفي وهو يتابعها بإعجاب حتى استقلت سيارتها ؟
ومن مساويء الصدف أن يتزامن وقت الانتهاء منها مع استنفاذ ما تبقى لديه من صباغة زيتية وقماش ،وهو ما جعل الأفكار تتضارب داخل رأس شعيب أخماسا في أسداس..
ـ " لوبعتها،هل سأتمكن من رسم مثيلتها؟ومن أين لي بالصبر الطويل لإعادة تشكيل تفاصيلها جزءا جزءا وخطوة خطوة ؟وهل سأكون فنانا بالفعل لو أقدمت على بيعها ؟ هل علي أن أعاني كي تكون لدي ذاكرة في تاريخ الفن ؟..لكن كيف لي أن أستمر في انعدام مورد مادي ؟ لا يمكنني التوقف عن العمل طالما هناك نبض في قلبي .. سأتنازل قليلا ، وأتخلص بعض الشيء من الأفكار المثالية التي تسبح في فضاء الأحلام .. المهم أن أجد من تسحره عينا "موناليزاي" ويجد فيها فتاة أحلامه،فلا شك أنه ،حينئذ،سيدفع ما أطلبه من ثمن .. أما بالنسبة لي فسأحاول أن أرسم أفضل منها حتى لو صرفت ضعف مجهوداتي من أجل ذلك .. سيكون عملا مضنيا على ما يبدو،لكنني سأستعد له بما فيه الكفاية، فقط علي ان أجد من سيؤدي مبلغا مقنعا ينسيني مرارة الفراق..
يا للعنة ! لو لم تكن في ذمتي ديون لما فكرت في بيعها ! "

ترجحت لديه أخيرا فكرة بيع اللوحة بعد طول تردد ، تناولها برفق وتمعن فيها للحظة قصيرة رغبة منه في مغالبة إحساسه بمفارقتها .. قبلها قبلة الوداع ثم أسرع في تأبطها خوفا من تأجج نار العاطفة فيتراجع عن قراره ،وماهي إلا لحظة حتى وجد نفسه في الزقاق ينشد هدفه ..


***


حركة دؤوبة لجحافل البشر تسري في الشارع .. اندس شعيب وسط السحابة الآدمية ثم أخذ يحث الخطى مستسلما لشروده،سارحا في تأمله وقد غاب عن تفكيره ما خرج من أجله،ولم ينتبه إلا وأحدهم يرج اللوحة تحت إبطه متسائلا:
ـ " للبيع هذه الصورة؟"
استدار لتلتقي عيناه وجها مستطيلا ، تعلوه قبعة موشكة على فقدان لونها،وتحفه لحية قد اشتعلت شيبا فيما ظلت نظرات صاحبه مركزة على اللوحة أملا في تعرف ما يحويه وجهها المخفى ..
مدد شعيب بصره إلى العربة الصغيرة أمام الرجل وتفحص محتوياتها:إبريق مستعمل،وقنينات زجاجية فارغة،وحذاء قديم وثمة ملابس بالية..
فكر في نهر الرجل المتطفل لكنه أعرض عن ذلك وارتأى مجاراته في عملية البيع لعله يستخلص منه أول انطباع عن براعة أنامله ..
ـ "كم ستدفع؟"
وقلب اللوحة فنظر إليها الرجل بتمعن خال من كل تذوق وعقب دون أن يغير قسمات وجهه العبوس:
ـ " هذه الفتاة ليست غريبة عني ! .. كم تريد؟"
ـ"قيمها بمفردك وقل لي بكم يمكن بيعها لزبون له ذوق .."
ـ"نادرا ما نصادف الزبون الذواق ،ولكن صورا كهذه في الغالب نشتريها بعشرة دراهم .. ثم إنها بدون إطار، ومع ذلك ما رأيك في اثنتي عشر درهما ؟"
حدق فيه مليا والغيظ ينهش قلبه ،وكم بدا له أمرا هينا أن ينقض على هذا الكائن المستبد ويخنقه حتى يزهق روحه،أو يحكم قبضته على لحية البئيس ويستلذ بنتفها شعرة شعرة،ولم يشعر إلا وهو يصيح في وجهه:
ـ"لو لم تكن في سن والدي !.. توكل على الله ،هذه التي تسميها صورة لا أنوي بيعها مفهوم؟! "
ارتبك الرجل ، وخيل إليه لوهلة أن بصاحب الصورة مسا أوضربا من الجنون،وتساءل مع نفسه عما إذا أساء الكلام،وأراد أن يزيد درهمين آخرين أو ثلاثة لأنه لم يلاحظ عيبا ظاهرا يشوه وجه اللوحة غير أنه آثر المضي لاقتناص فرص أخرى..


***

تابع شعيب سيره محملا نفسه مسؤولية مايغص حلقه من ندم وغيظ ، وبطريقة آلية تحسس جيبي سرواله باحثا عن علبة السجائر ثم أشعل سيجارة ومضى على مهل ينفث دخانها إلى أن وصل إلى محل كبير غصت جنباته بالزرابي واللوحات ذات الألوان الجذابة وبعض التحف الأثرية والمنحوثات الخشبية،فانتظر حتى انصرفت ثلة من الزبائن ثم غالب تردده وتقدم نحو صاحب المحل الذي رحب به بعد أن خمن ما جاء الشاب من أجله ..
ـ"هل ترغب في شراء لوحة؟"
ـ"دعني ألقي نظرة .."
أمسك الرجل البدين اللوحة بهدوء ثم أسندها إلى الحائط فوق طاولة وابتعد عنها خطوتين إلى الوراء وتأملها للحظة وأردف:
ـ"إنها جميلة بصراحة،لكن مثل هذه المواضيع للأسف لا تلقى إقبالا كبيرا من لدن الزبائن .. إننا ببساطة نعرض ما يتطلبه السوق كما ترى .."
تأبط شعيب لوحته من جديد وانصرف غير راغب في سماع المزيد ،وفي طريق عودته صادف البائع المتجول ،وما إن رآه هذا الأخير حتى انبسطت أسارير وجهه،وهرول نحوه هاتفا :
ـ"أين كنت يا هذا؟منذ ساعات وأنا أذرع الشارع جيئة وذهابا علني أراك .."
ـ"أنت ثانية؟ماذا تريد؟..لوحتي ليست للبيع حتى ولو أعطيتني كل ثروتك أتفهم؟.."
ـ"ثروتي أنا ؟ربما .. لكن ثروة الحاج عبدالرزاق المليونير قد يكفيك جزء يسير من عشرها ! .."
ـ"ومالي وثروة الحاج عبدالرزاق؟"
ـ"لا تتعجل وانتظر حتى أحكي لك .. إن للحاج ابنة شابة فائقة الجمال،وقد جاء كثير من الشباب ذووا الحسب والنسب لخطبتها لكنها كانت تمتنع لأنها متعلقة بشاب ينتمي إلى أسرة متواضعة،وهو ما أثار غضب أبيها لما علم بذلك،وقد كان لا يرفض لها طلبا،وعندما احتدم النقاش بين الفتاة ووالدها،غادرت البيت رفقة حبيبها،وقد بلغ بها الأمر إلى أخذ كل الصور التي يمكن أن تدل عليها،ويعتقد الحاج أنها تعيش الآن بفرنسا مع الشاب المحظوظ.."
قاطعه شعيب متسائلا:
ـ"لكن ألم يبحث لها عن صورة لدى صديقاتها ؟ثم مادخلي في الموضوع؟"
ـ"بلى قد فعل ،لكن الفتاة كانت منطوية على ذاتها بعض الشيء وعلاقاتها محدودة،وحين علمتُ بهذا الخبر وتأكدت من هويتها تذكرت انني رأيت صورتها عندك..ولحسن الحظ أنك لاتزال تحملها.."
ـ"لكن.."
ـ"هيا بنا،فقلب الحاج يكاد ينفطر على فلذة كبده،وهو الآن طريح الفراش وقد كان يأمل أن يحصل على صورة ابنته ليبعث بها إلى الصحف هناك بفرنسا.."
لم يجد شعيب بدا من المطاوعة وهو يرى عيني الشيخ تشعان بريقا كمن عثر على كنز مفقود..

يمما في اتجاه حي راق،ولم يصعب عليهما تعرف فيللا الحاج عبدالرزاق،استأذنا الحارس في مقابلة الحاج ،وأفصحا عن الغاية من الزيارة،فسمح لهما الدخول في أعقابه..
ما كاد الحاج يرى اللوحة حتى توردت وجنتاه،وذهب عنهما الشحوب الذي لازمهما منذ غادرته ابنته بلارجعة،وبدا وكأنه يتكلم لأول مرة،فقال بصوت يخنقه البكاء:
ـ"إنها هي .. ابنتي المدللة هناء .. أعز ما عندي في هذه الدنيا .. لكن قل لي يا بني؛كيف استطعت رسمها بهذه الدقة و البراعة ؟ هل كنت تراها كثيرا ؟.."
اضطرب شعيب قليلا وأطرق رأسه وقال في خجل:
ـ"كلا أيها الحاج .. كانت مرة وحيدة رأيتها فيها وقد فكرت في أن أجسدها في لوحة ولم أكن أعلم أنها ابنتك .."
ـ"على أية حال أنا مدين لك يا بني،وسوف أعرف كيف أكافيء فنانا كبيرا مثلك .."
بعد أيام قليلة شهدت المدينة احتفالا فاخرا بمناسبة عودة هناء إلى حضن والدها،وتزويجها بالشاب الذي اختارته،وقد توسطت اللوحة الميمونة القاعة الفخمة..
كان شعيب ورفيقه البائع المتجول من بين الحاضرين،وحين انتهى الحفل قفلا راجعين ..
انحنى شعيب يسوي ربطة عنق صديقه في المقعد الأمامي على يمينه ، ثم أدار محرك سيارته الجديدة وانطلق بها يشق سواد الليل.
ع.الحق الغِلاَق


( نص كان مشروع عمل روائي ..دجنبر 2004 ـ يناير 2005 )




نورالدين شكردة 08-04-2009 19:42

أهلا السي عبد الحق وها انت تثبت لي حقا انك تكره الإطالة...هههههههههه
اسمع اعذرك في استنساخ العمل وإخراجه لقراءته بتأن حتى يكون ردي مناسبا لقيمة الإبداع..حياك الله السي عبد الحق

محمد معمري 08-04-2009 20:16

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أخي الكريم الغلاق هنا أقف لأقول لك خبرا سارا إن لك إمكانيات كتابة الرواية.. هذه القصة سردها على مستوى البناء الروائي.. فكر في الأمر ستكون إن شاء الله ناجحا فيها من دون شك...

مودتي وتقديري.

الزبير 09-04-2009 17:31

شكرا على التحفة الأدبية

علال ابن الشرق 09-04-2009 17:42

السلام عليكم ؛ ما بين عشرة دراهم ثمن اللوحة المرفوض، وثمن سيارة شعيب الجديدة يفعل القدر فعلته في بني البشر ، لقد أمتعتنا ياغلاق ، وأرى أن لك نفسا روائيا فدونك القرطاس والقلم ..
مودتي وتقديري لشخصك وقلمك.


الساعة الآن 18:24

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات دفاتر © 1434- 2012 جميع المشاركات والمواضيع في منتدى دفاتر لا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة المنتدى بل تمثل وجهة نظر كاتبها