منتديات دفاتر التربوية التعليمية المغربية

منتديات دفاتر التربوية التعليمية المغربية (https://www.dafatir.net/vb/index.php)
-   دفاتر الإبداعات الأدبية (https://www.dafatir.net/vb/forumdisplay.php?f=74)
-   -   من ذكريات معلم في الأرياف (https://www.dafatir.net/vb/showthread.php?t=27028)

عمر الشرقاوي 07-09-2008 15:27

من ذكريات معلم في الأرياف
 
نص قصصي من ذكريات معلم في الأرياف*


تعرف جيدا أن ما ستحمله إلى تلامذتك اليوم من أطباق غذائية متنوعة : لحم، خضر، فواكه... ستوقظ نهمهم وتحرك جهازهم الهضمي المنخور بالخبز والشاي، بحثت عن مجموعة من الصويرات الملونة وغير الملونة تحمل أصنافا غذائية، لم تعرف يوما طريقها إلى معداتهم لتقرب إلى أذهانهم مفهوم الأغذية البانية والطاقية والواقية... لأن الذهن تحول في زمننا إلى جهاز هضمي، وأصبح المخ والمخيخ يفرزان عصارتهما، تساعدهما في ذلك حاسة البصر/ العين بصيرة واليد قصيرة.
ـ ماذا تناولت في غذائك اليوم؟
ـ الخبز والشاي.
ـ وأنتما؟
ـ قطعة خبز وحبات من الزيتون...
هكذا شوقتهم إلى الدرس الجديد...عيون تفيض براءة تحملق في الصويرات المثبتة على السبورة السوداء ، أفواه شبه مفتوحة تبتلع "ريقها" الناشف، عقول فتية تلتهم تلك الأطباق بنهم شديد..
أدرت بصرك نحو السبورة،طفقت تشاركهم النظر، ثم " تفوهت" بعبارة جاهزة أنهيت بها درس اليوم : " لكي نقي جسمنا من الأمراض، يجب أن تكون وجباتنا الغذائية متكاملة ومتنوعة..."
بدأت عيونهم تحدق في جسمك المنخور كالخشبة ، وشفاههم تتمايل محاولة أن تقول لك شيئا طلبت منهم أن ينصرفوا، فردد الجميع : " عطلة سعيدة يامعلمنا " . ابتسمت ابتسامة عريضة، تأبطت محفظتك الجلدية وانصرفت وراءهم بخطوات بطيئة.
عدت إلى بيتك المتواضع طرحت جسمك المنهك على فراش أصابه الملل، رشفت قهوتكالسوداء رشفة عميقة، نظرت إلى السقف " فضاؤك الشاسع الذي تعرض عليه شريط أحداث أيامك" (1) ماض كئيب لم تجد فيه ذاتك ، ولم تحقق خلاله إنسانيتك، رقم بين أرقام متراقصة ضائعة تبحث عن مكان لها في خانات التاريخ المشحون بالمحن. يصعب عليك التمييز بين نفسك والآخرين، ****يز يمسك خيوطها أخطبوط الدهر يمارس عليها لعبته . ماض قاتم لم تعرف فيه توهجا منذ ولادتك ، ضياع في ضياع في ضياع ... قالت لك أمك عندما سألتها عن ظروف ولادتك: «إن أباك كان عاطلاولم ينحر كبشا لنتيمن بإشراقك».لعنة الكبش تلاحقك كظلك، عقدتك التاريخية، لعن الله الأكباش وصوفها ولحومها وأظلافها...
قطع ابنك الوحيد حبل تفكيرك :«متى ستشتري لنا الحولي»؟؟؟ لحظة ولادتك التاريخية تعيد نفسها، تتكرر، محورها الكبش.
رشفت مرة أخرى جرعة من قهوتك، أحسست بنشوة عارمة تدغدغ رأسك، اتجه بصرك نحو السقف، حملقت في مساحته الضيقة : إمام المسجد بجلبابه الناصع البياض، وعمامته الصفراء، يجلس على حصير بين المحراب الفسيفسائي. استفسرته يوما في صباك عن ع معنى الآية: «وفديناه بذبح عظيم»
إبراهيم يجعل الحلم حقيقة يود ذبح ابنه إسماعيل ليفي بنذره، يهدي له كبش من السماء، فيتراجع، لحظة تاريخية لاتتكرر. التاريخ يعيد نفسه لا التاريخ لا يعيد نفسه جدل فكري عقيم دار بينك وبين أستاذ الفلسفة انتهى بطردك من الفصل.
أسقط ابنك فنجان قهوتك بحركة بريئة اجتثتك من شرودك لازال واقفا ينتظر ردك، وعلامة الحيرة بادية على وجه زوجتك الكئيب، نظفت الحصيرة بخرقة بالية، وذهبت لتعد لك فنجانا آخر، كم مرة نصحتك بعدم الإكثار من شرب القهوة، فهي السبب في مرضك بالمرارة والكبد. لاقيمة ولا وزن للصحة عندك .
انحدر السقف، خلته سيقع عليك. ضممت ابنك إلى صدرك بكل قواك، تنتظر اللحظة... لم يقع شعرت بدوخة وتعب رفعت بصرك بسرعة خطفت نظرة في فضائه. أعدت النظرة للمرة الثانية والثالثة... تبثث عيناك فيه. لازلت تذكر عندما قفزوا بك قفزة عكسية من القرن العشرين إلى القرن الخامس عشر لتعيش بين أحضان الأفاعي والعقارب السامة، تقطع عشرات الكيلومترات ماشيا على الأقدام لتحضر سوق القرية الأسبوعي، البؤرة التي تلتقي فيها بزملائك تجتمعون تحت خيمة واسعة، تشربون الشاي المنعنع بتلذذ بين جموع القرويين المنبطحة أجسامهم على الحصير.تتجاذبون أطراف الحديث المتناثرة. يدعوكم أحد القرويين أوجماعة منهم لتشاركوهم شرب الشاي، تعتذرون لهم، يبتسمون مومئين برؤوسهم تستأنفون الحديث.تنفثون دخان سجائركم الرخيصة الثمن فيتصاعد في الفضاء مشكلا حلقات تمتزج لحظة فتتلاقى المعاناة وتتعانق بتوحد المصير: الانتحار، الجنون، الغثيان ...قضاء فرضته سياسة النفي المعلن عنها باسم النهوض بالعالم القروي.
يفرغ السوق من محتوياته، ينفض من القويين، تتعانقون، يودع بعضكم بعضا. تحمل قفتك بعدم اقتنيت ماتسد به رمقك طيلة أسبوع كامل، وغالبا ما تتعفن مؤونتك بعد يومين أو ثلاثة، وفي انتظار السوق المقبل، تصوم أوتضرب عن الطعام احتجاجا على.....؟؟؟
ماء «المطفية» الملوث بشتى أنواع الكائنات الحية المجهرية وغيرها نخر أمعاءك ومعدتك. وفي بيتك الحجري المسقف بأشلاء من الخشب المحمول على جدران متصدعة، تشعرك وكأنك تنتمي إلى العصر الحجري القديم .تجلس القرفصاء تحت ضوء الشمعة الخافت تترقب غارات الأفاعي والعقارب ، أي نهار يأتي بعد ليل مليء بالمخاوف ؟؟؟ تكسر«الشيخة» صمت الليل الحالك وسكونه بصوتها «المبحوح» المنبعث صداه من بعيد :«كولوا العام زين». تفتح المذياع فيلوث سمعك أحد المتدخلين في ندوة إذاعية «كل شيء بخير وعلى خير» .
خرجت من غفوتك بعدما أحسست بدفء زفير ابنك الملقى على صدرك وقد أخذه النوم، حملته إلىفراشه دون رد، همست في أذنه:«نم ياحبيبي ساعة
لتمر من أحلامك الأولى إلى عطش
البحار إلى البحار» (2)
ــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
* نشرت في الشاملة با سم أبوسهيل. كما نشرت سابقا بجريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 16/07/1994
1 ــ عبد اللطيف اللعبي : رواية مجنون الأمل.
2 ــ محمود درويش: مديح الظل العالي.

chouf17 07-09-2008 15:39

قصة جميلة وفقك الله

عمر الشرقاوي 07-09-2008 15:52

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة chouf17 (المشاركة 188938)
قصة جميلة وفقك الله

شكرا على مرورك الطيب

tijani 07-09-2008 22:45

أخي الشرقاوي
نص قصصي جميل ، أسلوب شاعري يغري بالقراءة حتى النهاية . الموضوع في حد ذاته مشوق للغاية ، أنا شخصيا ذكرتني بتلك الايام القاتمة ..المشي على الاقدام .. تعفن اللحم والخضر ..وهلم جرا ، لذا وجدتني منساقا مع النص .

فقط اسمح لي بملاحظات بسيطة للغاية :
1-في قولك : " .. تجتمعون تحت خيمة واسعة، تشربون الشاي المنعنع بتلذذ بين جموع القرويين المنبطحة أجسامهم على الحصير.تتجاذبون أطراف الحديث المتناثرة. يدعوكم أحد القرويين أوجماعة منهم لتشاركوهم شرب الشاي، تعتذرون لهم "
أجد ان الجملة الثانية كأنها أقحمت إقحاما ، لانكم كنتم تشربون الشاي المنعنع ، فما معنى أن يدعوكم قروي لشرب الشاي في نفس اللحظة ؟ حتى لو فرضنا أن هذا حصل فعلا ، فسيبقى حدثا استثنائيا سيضر بمتن النص أكثر مما سيفيده .
2- قولك : تودعون بعضكم . مادام التوديع يتم بين الطرفين ، فإن الاصح سيكون : يودع بعضكم بعضا .
3- قولك :" يبتسمون مومنين برؤوسهم " لعلك تقصد الايماءة اي تحريك الرأس ، فهل " مومنين " وفت بالغرض ؟

هي ملاحظات بسيطة لا تنقص من قيمة قصتك الجيدة هذه شيئا
تحياتي

عمر الشرقاوي 07-09-2008 23:08

أستاذي الكريم tijani هذا شرف كبير يالنسبة لي لأتلقى ملاحظات قيمة منك أعتز بها ككل الذين شرفتهم بملاحظاتك القيمة وتوجيهاتك السديدة في الشاملة.
أما قولي: مومنين فالمقصود : مومئين
تحياتي


الساعة الآن 15:44

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات دفاتر © 1434- 2012 جميع المشاركات والمواضيع في منتدى دفاتر لا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة المنتدى بل تمثل وجهة نظر كاتبها