[عبد العزيز قريش]

وقفة مع ذات التفتيش

وأنا أتابع مشاركة نقابتي " نقابة مفتشي التعليم " في انتخابات اللجان الثنائية، لفت انتباهي خوض ذات التفتيش الجماعية في بعض الجهات والأقاليم معركة الانتخابات ضد ذاتها من خلال بعض أطرافها ومكوناتها تحت اسم العوامل السياسية أو الإيديولوجية أو الثقافية أو الرؤى الفكرية أو المرجعيات الاعتقادية؛ وهي مقبولة ومتفهمة نتيجة حرية الفرد في الجماعة. وربما حميت معركة الانتخاب تحت مظلة التناحر على مصالح شخصية لا تتعدى الفرد، الذي قد يتنكر في أية لحظة لأية جهة، ولو ساندته أو خدمته في يوم ما، فهو تابع لمصلحته الشخصية أينما كانت ووجدت!؟ ويدور حيث دارت ـ وهو في نظري يبخس الإطار وعاهة في ذات هذه الهيئة الشريفة ـ أو في إطار الحفاظ على مناطق النفوذ التي تمكن هذه الجماعة أو تلك، أو هذا أو ذاك من فتات بقي أو يبقى عن موائد الكبار أو مطمح في منصب قد يغادره بعد غد؛ وقد يذكره التاريخ أو ينساه! وهو ما لا تقبله منظومة الأخلاق والقيم. حيث إذا وضع الوعي الواعي بذاته لا بغيره، تلك المصلحة أو ذاك المنصب أو تلك البقايا في ميزان شرف وكرامة ومهنية وحقوق وواجبات ومكانة جهاز التفتيش وذاته الجماعية لا ترجح الكفة البتة لصالحها، ويبقى إطار التفتيش في مقابلها شامخا كالطود، وجواهر دونه تلك المعركة المفتعلة من اللاوعي أحجار طين يجرفها السيل مع الأيام إلى قاع يعلوها الخز، وهو يخز كل سابح في مياهه! وجدت نفسي أتذكر رجالا منحوا كل شيء للإطار دون الأخذ منه غير شرف المهنة وأخلاق الممارسة وسعة المعرفة والعلم وحلم السلوك ورجاحة العقل وفطنة الذاكرة وسبق الخدمة! وجدت بعضهم رحلوا عنا إلى التقاعد ونحن أشد شوقا إليهم ممن حمل ورقة لمجرد النسف أو المضايقة في الاسم أو إثبات الذات خارج الذات وإن كان في الحقيقة نفي للذات في الذوات! ووجدت البعض الآخر قد غيبهم الموت وبأر في القلب نار الشوق إليهم شوق المتعطش للماء. لولا عطاؤهم الكبير الوفير لما حنت إليهم الذاكرة، ورحل إليهم الشوق! وتذكرهم العقل ودمعت في حبهم العيون! رجال لا يسعهم التاريخ ذكرا! مهما حاول الإنصاف أو التدوين لأعمالهم. منهم تعلمنا كيف نمنح ولا نأخذ إلا حقنا، وكيف نسامح وإن ظلمنا، وكيف نمد اليد لمن خالفنا؟! تعلمنا منهم أن أول الغيث قطرة، والقطرة نهر، والنهر بحر، والبحر محيط! ...
تعلمنا منهم أن الرجال العظام أعظم في مواقفهم من الأقزام، هاماتهم شامخات في عنان السماء، جدهم بنى الأجيال ونسف الأوهام. هم الذين حملوا المشعل لنقابة مستقلة أخرجت الإطار من الانقراض إلى الحياة، ومن الفناء إلى الوجود. بهم صار للهيئة كيان مهني يعبر عن إرادتهم الجماعية بل عن ذاتهم الجماعية التي بها يتميزون عن الآخر، ودون أن تذوب أو تميع في مادة هلامية لا لون لها غير بقع من هنا وهناك. أصبغها عليها من ارتبط بهذا أو ذاك، أو من سكن هذا الهامش أو وضع في طرة الرسالة، يلقي النظر في أعماق المشهد الهزيل. يوزع الابتسامات مقابل علامات الاستفهام!؟ هم آمنوا بأن هذا الإطار يستحق أجود وأحسن مؤسسة تمثل نبل أخلاقه وجدية عطائه. تقومه إن أخطا وتثني عليه إن أحسن! تعبأ موارده نحو إصلاح المنظومة التربوية، وتخليق درب من مروا من هناك فأفسدوا المشهد والتاريخ والعمل. فابخسوا الناس أشياءهم حتى عهدنا منهم ترقية من لا يستحق، وإغلاق الأبواب أمام طالبي فتحها. وإسناد المناصب في الليل، والتفصيل فينا باسمنا، بدعوى زور هم اللسان الناطق بلساننا وإن لم يكن لساننا!؟...
رجال أوقدوا الشموع بذواتهم في درب الهيئة، فاحترقت لتنار دائرة عقولنا، ويصحا وعينا من سبات راودت أحلامه خواطرنا، وسكنت أوهامه آمالنا، فصحونا على ريش نعامة غارق رأسها في وحل أتربة أوجاعنا. هم الذين وضعوا المشعل في أيدينا بل الأمانة في أعناقنا: هذه ذات هيئة التفتيش الجماعية بعض أطراف جسمها ما زالت تبعد عن مفاصلها ومنابتها. عليكم بلحمها في مفصلها، ليكتمل نسق الجسم ورشاقة الروح فينا. وصية من أولنا للقادم فينا يحمل اسما من اسمنا. هنا سألت الذاكرة بعد استحضار كل الأحياء منا، وطلب الإذن منهم للجواب بلسان أمواتنا: من قصدت منهم؟ قلت حينها: كلهم وجميعهم، غير أن المثال لا يحصرهم. وقتئذ قالوا: أفصح، فالفصاحة منه عمقت روابطنا! وشدت أزرنا ومدت أطرافنا، فبتنا به جبالا على قممها تذوب الثلوج، وعند سفوحها ينبع نسغ الحياة، ويطل علينا ثانية من رفات سكنت الذكرى. قلت: هو من وضع بعد الحي الأول الأمانة في رجال ونساء حملوها، فأحسنوا حملها. قاموا عليها أحسن قيام، فكاد الجسم يكتمل جماله لولا بقع، شبه رسام لطخه بلمسة صباغة ظنا منه أن اللوحة لن تكتمل إلا بها، وإن كانت نشازا في ألوانها وفي بصماتها، ورداءة في تعبيرها وسمجا في رؤيتها! هنا نطق الحكيم الراحل فينا: لا تقلق، اعمل، فلابد للجسم أن يكتمل يوما ما جماله وبهاؤه. هنا؛ قالت الذاكرة: نعم أيها الراحل الكاتب العام محمد راشيد، لابد للمشهد أن يكتمل يوما ما، وروحك الطاهرة تحتضن كل عبئنا وثقلنا، وتوجه ذاتنا نحو الاكتمال بالتحام المفاصل فينا. فهذه التي حضرت اليوم في المشهد الانتخابي ثمار ما غرست أنت والراحلون معك، والباقون فينا على أديم الوطن يحفظون الأمانة بعطائهم وثقتهم في مؤسستهم وفي هيئتهم، هم منها وإليها. فيها ذاتهم وخارجها سوى شبه ذات مشوهة على مقاعد المقعدين داستها عفونة المتشردين منا. رحمك الله وإخوانك المفتشين والمفتشات، وزكى صحة وعافية من ينتظرون إشراقة صبح، يسطع فيها وجه الهيئة نورا.
رجال اليوم هم ثمار غرس البارحة، وغرس اليوم ثمار المستقبل هيئة تفتيش واحدة موحدة في مؤسسة نقابية شيد بيتها الرجال والنساء الصامدون المهووسون بهموم الإطار وقضاياه. من منحوا أصواتهم لأنفسهم وأثبتوا ذاتهم الجماعية والمهنية من خلال نقابتهم " نقابة مفتشي التعليم" فحصدت بهم أغلب أصوات ذاتها، لعل الصدى يعود صوتا إلى الذات بين غياهب المتاهات! طبت أيها العزيز في قبرك الطاهر بأعمالك الجليلة، وطبتم أيها الأحياء الأعزاء بنضالكم وبإيمانكم بإطاركم الذي يستحق الالتفاف حوله باستقلالية تعبر عنه خير تعبير. كلكم للهيئة سند ودعامة انتصار وآفاق انتظار...
وأنا أتابع مشاركة نقابتي في الانتخابات طاف أمامي كل هؤلاء وهؤلاء أبناء الذات الواحدة، فانبرى هؤلاء لمصلحة الذات الفردية وهؤلاء لمصلحة الذات الجماعية، فسبحان الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.

عبد العزيز قريش