وقفة من أجل التعليم والوطن
د. عبد الكبير حميدي
مع بداية كل موسم دراسي، تتجدد مأساة الأسر المغربية مع التعليم، مأساة عناوينها الرئيسة ثلاثة: مزيد من الأعباء المادية والنفسية، مزيد من تردي خدمات التعليم ومستويات التلاميذ، ومزيد من غموض الأفق وفقدان الثقة في المستقبل، وإنها لمأساة وأي مأساة، أن يؤدي المواطن ثمن خدمة لا يحصل عليها، كما يؤدي المبتاع ثمن بضاعة لم يتمكن من قبضها، وإن تمكن من قبضها وجدها فاسدة لا تصلح لشيء.
في نقاش عفوي حول التعليم هذه الأيام، أحسن أحد رجال التعليم التعبير عن حالة فقدان الثقة، التي يعيشها المغاربة مع التعليم بشقيه: العمومي والخصوصي، حين قال: " لو أمكنني أن أدرس أبنائي في البيت جميع المواد لما ترددت! ".
أجبته مازحا لكن جادا: " هذا – كما عبرت – غير ممكن، ولكن الحل الممكن والمطلوب، هو أن تدرس أبناء المغاربة في قسمك، كما لو كنت تدرس أبناءك في بيتك، ويدرس غيرك من الأساتذة أبناءك، كما تحب وتفعل مع أبناء المغاربة".
ابتسم، وقال: أصبت، هذا هو الحل، هذا هو الحل.
يكثر اللغط والجدل، والقيل والقال، والمزايدات السياسية والإيديولوجية، كلما كان موضوع النقاش، حول مشكلة التعليم، كما لو كانت مشكلة بلا حل، فيلقي البعض باللائمة على الوزارة الوصية التي تدير وتدبر الأزمة ولا تحلها، والبعض الآخر على البرامج والمناهج التي لم تستقر يوما على حال، وبعض ثالث على الأساتذة الذين لم يعد يشغل جلهم سوى الإضرابات والانتقالات والترقيات، وربما تحدث البعض عن أسباب أخرى قريبة من هذه أو بعيدة عنها.
الأزمات البنيوية المركبة كما هو معلوم، هي نتاج أسباب متعددة متداخلة، ولا تكون نتاج سبب واحد، وإن كان من الصعب تحديد نسبة مساهمة كل سبب في تشكيلها وإخراجها، وصناعة التعليم – أو الصناعة الاستراتيجية كما يسميها الأمريكان – تنبني على ثلاثة مقومات لا رابع لها:
- المقوم البشري ( السلطة الوصية، الأساتذة، التلاميذ).
- المقوم البيداغوجي ( البرامج والمناهج).
- المقوم المادي اللوجيستيكي ( الفضاءات والتجهيزات والوسائل التعليمية).
عندما تكون المشكلة في المقوم المادي، فإن التعليم يكون في حالة خلل، وعندما تكون المشكلة في المقوم البيداغوجي، فإن التعليم يكون في حالة مرض، أما إذا وصلت إلى المقوم البشري، فإن التعليم حينها يكون مهددا بالموت والإفلاس لا قدر الله. وما ذلك إلا لخطورة دور البشر في صناعة النجاح أو الفشل، ولكون المقوم البشري السليم والمعافى، يستطيع توجيه المقوم البيداغوجي، وإصلاح عيوبه، وملء فراغاته، ويستطيع تجاوز عقبات وعوائق المقوم المادي. أما عندما تصل الأزمة إلى تلك الجوانب جميعا، وعندما تشمل العنصر البشر ي كذلك، فإن إصلاح البرامج والمناهج لا ينفع، وتوفير الوسائل والتجهيزات لا يسمن ولا يغني.
وأنا من الذين يحسبون أن أزمة التعليم عندنا في المغرب، تجاوزت البرامج والمناهج، وتخطت التجهيزات والوسائل، إلى السياسة التعليمية تخطيطا وتنفيذا، أي إلى سلطات التربية والتكوين ورجال التعليم أنفسهم، عندما فقد الوعي بنبل وسمو رسالة التربية والتكوين، وعندما تم تحويل الرأسمال البشري لمنظومة التربية والتكوين، المتمثل في الأساتذة ، من مربين ومكونين يجتهدون ويبدعون، إلى موظفين ينفذون المذكرات ويتقيدون بالتعليمات.
لقد أصيبت منظومة التربية والتكوين في مقتل، عندما أضاع رجالها ونساؤها الروح الوطنية، والحس الأخلاقي، والضمير المهني، عندما تولى عديمو الضمير، وقليلو الشرف والحياء منهم، المناصب العليا والمسؤوليات الحساسة، عن طريق التعيينات السياسية والحزبية والنقابية والإيديولوجية، وعندما تم تهميش الشرفاء والكفاءات النزيهة، لا لشيء إلا لكونها غير منتمية وغير مسيسة وغير مؤدلجة، حتى وصل كثير من المجرمين، من الذين لا عهد لهم ولا ذمة، ولا شرف ولا مروءة، ومن الفاشلين في الأقسام وجبهات الفعل التربوي، إلى مراكز صنع القرار التربوي، في قطاع استراتيجي حيوي موكل بصناعة الإنسان المغربي، وتحقيق أمن الأمة الفكري وكفايتها الثقافية، فخلف ذلك موجة من التذمر والإحباط في صفوف القواعد من رجال التعليم، فتراجعت إرادة العطاء عندهم، وانهار لديهم الضمير المهني والوعي بالمسؤولية.
ونتيجة لذلك، فقد رجل التربية هيبته واحترامه أمام نفسه، وأمام المجتمع، فصار كل همه النضالات والإضرابات لاستعادة بعض اعتباره، وترميم شيء من صورته وكرامته المخدوشة، وانتزاع بعض التكريم المادي والاعتراف المعنوي. وهاهنا الحلقة المفقودة، والحقيقة المرة الضائعة، وهاهنا مربط الفرس، ومكمن الداء ومبدأ الدواء، لكن من أين نبدأ؟ وما هي أول خطوة في طريق الإصلاح المنشود؟.
إن منطلق الإصلاح في منظومتنا التربوية التكوينية، ليس من البرامج والمناهج، ولا من البنايات والتجهيزات، على أهميتها وضرورتها، وعلى كونها جزءا لا يتجزأ من الحل.
منطلق الإصلاح يكون من إعادة الاعتبار لرسالة التربية، وإعادة ترميم صورة المربي، ومساعدة رجل التعليم على استعادة هيبته، ووطنيته، وضميره المهني، واحترامه لنفسه، واحترام المجتمع له.
منطلق الإصلاح، يكون بتطهير مواقع صنع القرار التربوي – وطنيا وجهويا ومحليا – من المجرمين والوصوليين والانتهازيين، الذين جاؤوا لجمع الثروات، وتكوين الأرصدة البنكية، وتحقيق ذواتهم المريضة، على حساب عقول وأخلاق الناشئة.
منطلق الإصلاح يكون من إحساس الأستاذ – وهو في قسمه أو مدرجه أو مختبره – أنه يحرس ثغرا من ثغور الوطن، فيحذر أن يؤتى الوطن من قبله. ومن إحساس المجتمع بفضل الأستاذ، ونبل رسالته، وعظيم خدمته للمجتمع، فيكرمه على ذلك معنويا وماديا. سئل مسؤول ياباني عن سر التقدم والرفاه الذي تعيشه اليابان، فأجاب بالقول: " أعطينا المعلم راتب وزير وحصانة ديبلوماسي".
لكل هذا، أدعو جميع المنتمين إلى قطاع التربية والتكوين – وأنا واحد منهم – إلى وقفة مراجعة للذات من أجل التعليم والوطن، من أجل حاضرنا ومستقبل أبنائنا.