وصفات الأدوية .. احترام لأخلاقيات الطب أم تبادل مصالح؟
هسبريس - إسماعيل عزام
الاثنين 29 يونيو 2015 - 11:00
لا يصف الطبيب الأدوية للمرضى انطلاقًا من تجربته فقط، بل هناك مهنة أساسية قلّما يعتريها الإهتمام رغم دورها الكبير في الربط بين صناعة الأدوية والوصفات الطبية، فهي المهنة التي تصل بين الأطباء وبين مختبرات صناعة الأدوية، وهي من تتواصل بشكل دائم مع أصحاب البذلة البيضاء لإخبارهم بجديد الأدوية.
"المندوب الطبي هو ممثل للمختبرات الصيدلانية، يعمل على زيارة الأطباء لأجل ترويج الأدوية الجديدة وتحديث معلوماتهم حول القديمة منها. فأحيانًا يتم تطوير بعض أنواع الأدوية، فتكون زيارة المندوب مهمة لشرح ما تم تطويره بما في ذلك الأعراض الجانبية. وأحيانًا تصير بعض الأدوية صالحة لحالات لم تكن مخصصة لها سابقًا" يقول عبد اللطيف كزاز، خبير في تكوين المناديب الطبيين، وصاحب أول مركز في هذا المجال.
يدافع المناديب الطبيون عن مهنتهم، وينظرون إليها عاملًا مساعدًا على وصف الطبيب للدواء الأفضل لصحة المريض، كما تعدّ فرصة سانحة لآلاف الشباب كي يعملوا في قطاع يتطوّر يومًا بعد يوم. غير أن المهنة، تخفي وراءها الكثير من مساحات الظل، خاصة ما يتعلق بالعلاقة بين الطبيب والمندوب الطبي.
مهنة حساسة.. دون قانون للتكوين
إن كانت مزاولة هذه المهنة بالمغرب لا تشترط مستوى تعليميًا معيّنًا من الناحية القانونية رغم حساسيتها، فإن خصوصية الدواء جعلت المختبرات تفرض شروطًا متعددة على الراغبين في ولوجها، ومن هذه المختبرات ما يطلب تكوينًا مسبقًا في المهنة، لا تقوم به إلّا مؤسسات خاصة لمدة قد تصل ما بين أربعة أشهر إلى سنة كاملة، بينما ينحصر التعليم العمومي في إجازة مهنية وحيدة بكلية عين الشق. وفي الغالب، تضع المؤسسات الخاصة بعض الشروط من قبيل توفر المرّشح على مستوى بكالوريا+2 فما فوق في جميع الشعب، فضلًا عن مستوى جيد في اللغة الفرنسية.
يقول عبد اللطيف كزاز:" لا يمكن الاستعانة بأيّ كان لتقديم الأدوية إلى الطبيب. كثيرًا ما يتوجه لهذه المهنة الشباب الذين لديهم إلمام بالمجال الصحي. كما أن المختبرات الكبرى لا توظف إلّا من لديهم خبرة أو مستوى عالٍ في دراستهم، منهم حتى من درسوا في كليات الطب والصيدلة، عكس بعض الشركات الصغيرة التي تبيع مستلزمات طبية بسيطة كالعوازل الطبية، إذ قد توظف أشخاصًا بمستويات تعليمية متواضعة".
وإذا كان الإطار القانوني للمهنة بالمغرب غائبًا، فالقانون الفرنسي يحتم على كل مختبرات الأدوية ألّا تقبل إلّا من مرّوا من مؤسسات تكوين صحي تُعرف باسم "GRETA"، يقضي فيها المرّشح للمهنة عامًا من الدراسة، ولا يلجها إلّا إذا توفر على مستوى "بكالوريا +2". وعندما ينهي فيها المرّشح دراسته بعد تدريب في مختبر أدوية، يجري امتحانًا شفويًا يتم من خلاله التأكد من كفاءته للعمل.
ويزيد عبد اللطيف كزاز في تصريحاته لهسبريس بأن المختبر الذي يشتغل عنده المندوب الطبي ليس له الحق تسويق دواء دون أن يكون هذا الأخير مرخصا من وزارة الصحة، إذ تعمل مديرية الأدوية والصيدلة بالوزارة على التحقق من الدواء لمدة سنتين قبل السماح بتسويقه، كما أن توزيع الأدوية بالمغرب يخضع لمعايير صارمة، فالدولة هي من تحدد ثمن الدواء، وهي من تعطي حق بيعه.
جدل تبادل المصالح
غير أن هناك بعض الاتهامات للمناديب الطبيين بنسج علاقات مصالح مع الأطباء، تستفيد بموجبها المختبرات ماديًا بما أن المريض يشتري أدويتها التي يصفها الطبيب، ويستفيد الطبيب في المقابل من التكوين المستمر المجاني الذي يقدمه المختبر، ومن حضور المؤتمرات خارج أرض الوطن والنزول في فنادق راقية مجانًا، تحت يافطة المختبر الذي يصف أدويته.
تعترف مصادر من المهنة بهذا التبادل في المصالح، إلّا أنها لا تعتبره عيبًا، بل يدخل في إطار win-win: " شيء عادي أن تبحث مختبرات الأدوية عن الربح بما أنها شركات تجارية، وشيء عادي أن تُجازي الأطباء الذين يتعاملون معها بمثل هذه الرحلات، عِلما أنها أسفار علمية وليست سياحية، والغرض الأساسي منها هو التكوين المستمر للطبيب، كما أنها تبقى قانونية في أغلب البلدان" يقول مندوب طبي رفض الكشف عن هويته.
يؤكد الطبيب، زهير لهنا، انتشار واقعة تبادل المصالح بين مجموعة من الأطباء وشركات الأدوية عبر وسيط المندوب الطبي، مع "ما ينتجه ذلك من آثار سلبية على عملية وصف الدواء، وعلى ميزانية المواطنين الذين يضطرون لشراء أدوية غالية الثمن رغم إمكانية وجود أدوية أخرى بأثمنة أقل، بما أن من يصنّع هذه الأدوية، هو المختبر الذي يتعامل مع الطبيب المعني".
"المصالح الصغرى طغت على الكثير من المجالات منها المجال الصحي. أكيد أن الأمر لا يخلق مشكلً أخلاقيًا إذا كان الدواء صالحًا للمريض وثمنه مناسب، لكن عندما يكون العكس، فهنا نتحدث عن رشوة مقنعة. المشكل أن الكثير من الأطباء تعوّدوا على هذا النظام اللّا أخلاقي لدرجة أن العمل به صار عاديًا" يقول زهير لهنا، مشيرًا إلى أن هذه الظاهرة توجد عند الأطباء المتخصصين في أمراض معيّنة وليس عند الجميع، أي بعض الأطباء الذين لا يوجد من ينافسهم في تخصصاتهم داخل مدنهم.
هدايا أخرى
في الوقت الذي تزداد فيه أعداد المناديب الطبيين في المغرب حسب ما رصدناه داخل مؤسسات التكوين، ويحتم فيه على المندوب أن يزور ما بين سبعة أطباء و12 في اليوم، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن التحفيز المادي للمندوب يرتفع كلما حقق معدلات إقناع أكبر، خاصة على ضوء تزايد التنافس بين مختبرات الأدوية، يُطرح السؤال: هل الرحلات العلمية وبرامج التكوين هي المقابل الوحيد؟
لا جواب في أوساط المناديب الذين التقينا بنهم، وكذلك الأمر عند بعض الأطباء الذين طرحنا عليهم هذا السؤال، لكن، وبالعودة إلى فرنسا، فقد اعترفت جولي واسلين، وهي مندوبة اشتغلت لأزيد من 30 عامًا، في حوار صحفي، أن المناديب الذين عرفتهم كانوا يُتاجرون بصحة المرضى، وأن بعض الأطباء كانوا يصفون بعض الأنواع من الأدوية لمجرّد تلقيهم قنينات من الشامبانيا كهدايا.
طبيب آخر، هو دالي أغشر، كتب مقالًا في مجلة فوريس، قال فيه إن الكثير من الأطباء كانوا يستفيدون من العشاءات الفاخرة المجانية، ومن المشاركات المدفوعة الأجر في المنتديات الطبية، بسبب وصفهم أدوية عرضها عليهم مندوب مختبر ما، متحدثًا أن الأطباء المعنيين يعرفون أن هذا الأمر خاطئ، حتى وهم يؤكدون أن لا تأثير لذلك على وصفاتهم.
وإذا كانت الهدايا البسيطة مثل الأقلام والكتيبات والبذلات تتسامح معها قوانين الكثير من البلدان المتقدمة، فإن جمعية الصناعة الصيدلية ببريطانيا ABPI تمنع كل أصناف الهدايا، حتى الصغيرة منها. كما أن شركة عملاقة للصناعة الدوائية بهذا البلد، هي "غلاكسو سميث كلين"، أعلنت عن توقيفها للتعويضات المادية التي كانت تقدمها للأطباء لمداخلاتهم وحضورهم في الندوات التي تقدمها، وذلك بعدما اكتشفت إمكانية تضارب المصالح.
ظاهرة في الظل
يتحدث الطبيب زهير لهنا الذي سبق له أن اشتغل لمدة طويلة بفرنسا: "لقد فرض مجموعة من النواب البرلمانيين الفرنسييين قوانين لمحاربة ظاهرى الهدايا بين مختبرات الأدوية والأطباء، كي لا يعتمد الأطباء في وصفهم للدواء سوى على أخلاقياتهم ومعرفتهم بالمجال، أكثر من حجج المناديب الطبيين. للأسف لا توجد لدينا كفاءات سياسية تفهم الميدان الصحي كي ترافع لأجل محاربة هذه الظاهرة التي تؤذي جيب المريض، وميزانية الدولة ، بما أن هذه الأخيرة تؤدي مصاريف التغطية الصحية لفئات كبيرة من مواطنيها".
في الجانب الآخر، يدافع كزاز عن المناديب الطبيين: " إذا ما تبيّن أن هناك دواءً ما تمّ وصفه في غير محله، وتعرّض المريض لمضاعفات صحية خطيرة، فالطبيب تتم مساءلته، والأمر نفسه بالنسبة للمندوب الطبي، ممّا يضرّ بسمعة المختبر، إذ إن هذه السمعة هي رأسماله الأوّل في هذا الميدان. لذلك تعمل هذه المختبرات على تشكيل لجان مراقبة للمناديب لأجل تتبع الأدوية الموصوفة ومدى احترامهم لقانون وأخلاقيات العمل. هذا هو ما نحث عليه في مؤسسات التكوين لأن صحة المريض غير قابلة للاتجار، دون أن ننسى أن مختبرات الأدوية لن تخاطر بمحاولة إجبار موظفيها على دفع هذه الهدايا، فتسريب واحد للإعلام يكفي لإنهاء مسار شركة تستثمر أموالَا كبيرة".