مقال مثير للجدل:«طبل» الوفا
لحسن الحظ أن مدارس المملكة لم تعد تشبه تلك «المعتقلات» التي أمضينا فيها الشوط الأول من أعمارنا، عندما كان المعلمون يتسلون بتعذيب التلاميذ الصغار، بكثير من السادية، وإذا ما «زغب الله» أحد الأطفال واشتكى لأبيه، يرافقه في اليوم الموالي إلى الفصل، وبدل أن يدافع عنه يقول للمعلم مشجعا: «نتا ذبح وانا نسلخ»… ليستسلم الصبي إلى مصيره المحتوم بين جلادَيْه. بمجرد ما كنا نخرج من حصة الصباح، نذهب عند التلاميذ الذين «يتبادلون» معنا الفصل والمعلم كي نسألهم ذلك السؤال الأبدي: «واش عندنا السليخ؟»… «السليخ» في مدارس ذلك الزمان كان «مادة أساسية» في المقرر مثل الصرف والتحويل والإنشاء والحساب، بمباركة من العائلة ووزارة التربية الوطنية. كانت حجرات الدرس مزينة بكل أدوات التعذيب: أنابيب المياه، الأحزمة الجلدية، «الكروا»، ومختلف أنواع العصي التي تخلف آثارا مسمومة على الجسد، ولم يكن المعلم يتورع عن تجريب مختلف صنوف التعذيب على أجسادنا الطرية، كأننا معتقلو رأي لا طلاب علم وتربية. أجيال من المغاربة ترعرعت في هذه «السجون» التي كانت تسمى «مؤسسات تربوية»، ولا شك أن ذلك يفسر بعض السلوكات العدوانية التي تتحكم في تصرفات الكثيرين، لأن «الطفل أبو الرجل»، في النهاية، كما ظل يردد فرويد. أذكر كم كان درس النحو «رهيبا» في الإعدادية، لأن الأستاذ يطلب منا أن نحفظ «القاعدة» عن ظهر قلب، وعندما ننتهي من «الاستظهار»، يكتبها على السبورة ويطلب من كل من تلعثم أو نسي أو أخطأ أن ينهض كي يلحس الكلمات بلسانه، على سبيل الإذلال… هكذا، بدل التهام الدروس والمعارف كنا نلتهم كميات محترمة من الطباشير كل أسبوع! كما أذكر أن أحد المعلمين في الابتدائي كان يدلي الأطفال من نافذة في الطابق الرابع، دون أن يكترث لاستعطافهم، ورغم أن الصرخات كانت تصل إلى البيوت المجاورة للمدرسة، فلا أحد كان يجرؤ على إيقافه عند حده، المعلم نفسه كان يحوّل الفصل إلى «بريتش» يتبادل فيه الحب والغرام مع إحدى زميلاته، وسط نظرات التلاميذ الفضولية، وبين قبلة وأخرى ينهرنا ويطلب منا أن نغرس أعيننا في «الليفر» ونقرأ في صمت… ولو استعرضنا كل أساليب التعذيب التي كانت رائجة في المدرسة العمومية، لاحتجنا إلى «هيئة إنصاف ومصالحة» لجبر الضرر وتعويض أجيال من المغاربة عن العاهات النفسية المستديمة التي ورثوها من الدراسة في «سنوات الجمر».
هل اختفت السادية من المدرسة المغربية؟ هذا ما كنت أعتقده شخصيا، إلى أن اطلعت على ما ارتكبته معلمة في إحدى مدارس حي الرياض بمراكش، وتأكدت أن الجيل الصاعد أيضا ما زال «يأكل» حصته كاملة، بأساليب أكثر همجية أحيانا، خصوصا أن «التربية» غادرت حجرات الدرس تاركة مكانها ل«العداونية». العنف أصبح رياضة شعبية بين أسوار المدارس والثانويات، وعبقرية بعض المعلمين تتفتق كل يوم عن «ابتكارات» جديدة، كما تبين الطريقة غير المسبوقة التي أبدعتها المدرسة المراكشية: مدّدت التلميذ على بطنه فوق طاولة ووضعت أصبعها في مؤخرته… كأنها في ماخور! الأنكى أنها أجبرت التلاميذ على القيام بذات الشيء في حق زميلهم، دون أن تراعي الدمار النفسي الذي تلحقه بالطفل وبالتلاميذ الذين حولتهم إلى جلادين صغار. وكان على الأطفال وأوليائهم أن ينتظروا أكثر من شهرين، كي تفتح النيابة العامة تحقيقا مع المعلمة السادية، بعد أن تسربت الفضيحة إلى الصحافة. معلمة مراكش ليست سوى الشجرة التي تخفي الغابة: كم من مريض نفسي يرتدي بذلة بيضاء ويتجول في حجرات الدرس مصرفا عقده على أجساد الأطفال الأبرياء، بتواطؤ مع المسؤولين في غالب الأحيان، لأنهم يفضلون الصمت عملا بشعار: «كم حاجة قضيناها بتركها»، مادامت القضية لم تصل إلى المحكمة أو الصحافة. ولا أعتقد أن وزير التربية الوطنية محمد الوفا مؤهل لوضع حد لمثل هاته السلوكات، إن لم يكن قد ساهم ضمنيا في تكريسها ب«قفشاته» المتهورة التي يصعب تقبلها من مشرف على قطاع اسمه «التربية والتعليم». الجميع يتذكر قصته مع التلميذة المسكينة التي نصحها بأن تفتش عن زوج بدل المجيء إلى المدرسة، في مزحة حطمت مستقبلها، كما نتذكر كلامه السخيف عن «أوباما باباه» ومدارسه «المتخلفة»، كما يصنع أي «حلايقي» في جامع لفنا… وهي رسائل سلبية جدا حول مدى جديته في إصلاح المنظومة التربوية، إلى درجة يصعب معها أن تطلب من المعلمين أن يكونوا جديين في عملهم، كما يقول الشاعر:
«إذا كان رب البيت للطبل ضاربا// فشيمة أهل بيته الرقص» !
جمال بدومة