حديث الصباح: في الضرورة الإستراتيجية لإعلان التربية والتكوين قطاعا سياديا
حكومة بنكيران ضيعت على نفسها صناعة إنسان المستقبل بتفضيل حقائب السيادة على الأجساد دون حقائب السيادة على العقول
خالد الحري
الصباح : 07 - 02 - 2012
بعد حصول العدالة والتنمية على النصر البين في الانتخابات التشريعية الأخيرة، كان من المفروض أن يقود الحزب حربا ضروسا من أجل الاحتفاظ بمجموعة من الحقائب الوزارية حتى يعطي مدلولا حقيقيا لشعار التغيير الذي رفعه، غير أن الرأي العام فوجئ بأن الحزب، كسابقيه من الأغلبيات السابقة، له مفهوم نخبوي وغير إستراتيجي لمفهوم التغيير المجتمعي، وهكذا كان الصراع حول وزارات بعينها، لأنها، بحكم ثقافة الصراع الخاوي المترسبة، انصب التنافس وعملية شد الحبل حول وزارات التحكم، وليس تلك المتعلقة بإعادة البناء، من قبيل وزارة المالية ووزارة العدل. وظلت أهم وزارة في بناء مغرب المستقبل خارج التنافس كما حدث في تكوين حكومة عباس الفاسي عندما رَفَضَت كل الأحزاب، دون استثناء، حقيبة التعليم، باعتبارها قطاعا ملغوما بالمشاكل التي يجترها القطاع منذ أيام الوزير الاستقلالي الراحل عز الدين العراقي.
لقد خسر حزب العدالة الرهان التاريخي من أجل التغيير، وفضل إستراتيجية التحكم على إستراتيجية التغيير المجتمعي الذي يضمن له المستقبل، ففضل حقائب السيادة على الأجساد ونسي حقائب السيادة على العقول التي تضمن بناء مجتمع منتج على أنقاض مجتمع العوز المغرق في الكسل والخمول، علما أن كل الشعوب والاقتصاديات الصاعدة في شرق آسيا لم تنهض إلا بعد سن سياسة تعليمية منتجة للأطر المتوسطة والعليا المطلوبة من أجل النهوض الاقتصادي.
لقد أهمل الحزب القطاعات الاجتماعية التي استغل صعوباتها أيام المعارضة من أجل إنهاك الحكومات السابقة وفضل القطاعات التي قد توفر له صفقة مع النخبة، كمجال الحريات والمجتمع المدني والإعلام بعيدا عن «تهراس الراس» مع مطالب الجماهير.
منذ 1977، والمغرب يختط سياسة تعليمية عرجاء على قطيعة تامة مع سوق الشغل ومتطلبات التنمية والتطور ولا أحد استطاع أن يكشف عورة التعليم وحتى عندما كلف المرحوم الحسن الثاني الراحل مزيان بلفقيه بالعمل على معالجة جذرية لمنظومة التربية والتكوين، كان هاجس الراحل الوصول إلى توافق مع الشركاء الذين يتحكمون في الاحتجاج في القطاع وليس الشركاء المعنيين بالتربية والتكوين، وهكذا تم اختزال مشاكل القطاع في الزيادة في الأجور وبعض المشاكل المتعلقة باللوجستيك، وكان الخطأ هو إشراك ممثلي النقابات التعليمية الذين لم يكونوا إلا من المتفرغين النقابيين الذين هم في العمق منقطعون أصلا عن التربية والتعليم ومتمرسون فقط في الملفات المطلبية المتعلقة بمنظومة الأجور واللوجستيك، بالمقابل استطاع الراحل مزيان بلفقيه أن يؤهل قطاع التكوين المهني الذي قاد عملية تأهيله أحد المهندسين المتخرجين من أرقى المعاهد الباريسية، فاستطاع أن يوفر للمغرب آلاف اليد العاملة المؤهلة والأطر المتوسطة، التي واكبت الإقلاع الاقتصادي الذي شهده المغرب في بعض القطاعات الإنتاجية والصناعية منذ أكثر من 10 سنوات.
ربط الجامعة المغربية بسوق الشغل من خلال الإجازات المهنية لا يتجاوز حاليا 10 في المائة من عدد الخريجين، في الوقت الذي تنتج فيه الجامعة المغربية كل سنة أعدادا من الخريجين الحاملين لدبلومات لا تغني ولا تسمن من جوع ولا حاجة للمغرب بها، وهم أساس الانحباس الاجتماعي الحالي في الشارع العام.
آلاف الخريجين ذوو إجازات في الدراسات الإسلامية أو الحقوق ويعتبرون أنفسهم أطرا عليا مهمشة فما حاجة المغرب بهذا الجيش من الدكاترة والمجازين المعوزين الذين لم ينشروا في تاريخهم بحثا علميا واحدا في العلوم الحقيقية والتكنولوجيا والهندسة والصناعة ويريدون للمغرب أن يتحمل من المال العام توظيفهم أو بالأحرى دمجهم الاجتماعي حتى يقتعدوا كرسيا في القطاع العام دون قيمة مضافة حقيقية لهم وللمجتمع وعلى حساب المال العام.
إن من الحرية الشخصية أن يحصل طالب معين على إجازة أو دكتوراه في مسالك غير علمية، ولكن ليس من حقه أن يفرض على المجتمع توظيفه قصرا في القطاع العام ويعتبر ذلك حقا دستوريا.
إن الداء كل الداء في الخلل الاجتماعي الذي يكبل النهضة الاقتصادية المغربية كان وسيبقى في التعليم، خصوصا في شعار التعريب الذي طبق بطريقة شعبوية من أجل إنتاج مجموعة من المعوزين الطامحين في العيش على حساب المجتمع، فما معنى أن يدرس التلميذ العلوم باللغة العربية كل سنوات دراسته في التعليم المدرسي ولمدة 12 سنة وعندما يحصل على الباكلوريا ويلج مدارس الهندسة أو كليات الطب أو الصيدلة أو العلوم يطلب منه أن يدرسها بالفرنسية، إنه انفصام يعيشه التلاميذ المغاربة منذ أكثر من 20 سنة.
لماذا إذن تم فرض التعريب على المدرسة العمومية إذا كان لا ينتج سوى العاطلين والطلبة ذوي المستوى الضحل؟ ولماذا إذن يتم السكوت على هذا الإهمال للمدرسة العمومية، فصناعة جيل قادر على مواجهة التحديات يتطلب 17 سنة على الأقل من تعليم وتكوين متطور منتج؟ ولماذا يفرض التعريب في التعليم ولا يفرض في سوق الشغل؟
حكومة بنكيران غير مسؤولة عن الواقع الحالي لكنها ضيعت على نفسها صناعة إنسان المستقبل بتنازل الحزب الأغلبي عن قطاع التعليم المدرسي، قطاع صناعة العقول حتى يسن منظوره إلى التنمية من الأساس عوض الغوص في لغة أرقام وزارة المالية وتحقيق "شوية" حريات لتحكمه في قطاع العدل، إن صناعة غد الشعوب، كل الشعوب، يبدأ من التعليم وقد يعوضه في حدود الإعلام في تشكل الوعي الجماعي للمجتمع من أجل ترسيخ الثقافة الديمقراطية المبنية على المسؤولية.
إن استمرار المنظومة التعليمية الحالية لا تعزز إلا جيش العاطلين المعوزين الذين يقودون حربا ضروسا وقودها الناس من أجل حجز مقعد كموظف شبح في بلدية أو موظف نكرة في قطاع غير منتج أو باحث عن كشك في ملك البلدية أو امتياز في إطار اقتصاد الريع المسموح بها اجتماعيا للمعوقين والمعطوبين والمعوزين، لأن في دستورنا فصل يتحدث عن الحق في الشغل ولكننا ننسى الفصول التي تتحدث عن التعليم والتكوين.
عندما يصبح قطاع التربية والتكوين قطاعا سياديا تتصارع الأحزاب من أجل تسييره وتنتفض في الشارع العام من أجله يكون المغرب قد بدأ أول الخطو الصحيح في اتجاه التقدم والنمو أما غير ذلك فلن يُنتج إلا التخلف والعوز وعقليات المنافسة على الريع والفقر.