يوميات عابدة غافلة "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" بهذه الكلمات كانت تخفف عن نفسها بين الفينة والأخرى... فرغم أن لسانها كان لا يفتر عن الاستغفار، وقلبها دائم التعلق بالله، إلا أن الإحساس بالحسرة والتقصير لا يفارقها لأنها كانت تعتقد دائما أنها لا تعبد الله كما ينبغي، وتكاد تضيق ذرعا بكل هذه القيود والالتزامات التي تراها قيودا دنيوية تعرقل سلوكها إلى الله، وتحرمها من ممارسة العبودية بالمعنى الذي تراه.شغل بلا عطلةيومها لا تعرف له بداية ولا نهاية، إنه يبدأ على إيقاع صراخ رضيعها الذي يطلب القوت تارة، وتارة يريدها أن تبقى مستيقظة بجانبه، باحثا عن الدفء والأمان، وأحيانا يبكي ويصرخ صراخا متواصلا دون أن تعلم لذلك سببا، فيغادر الزوج المكان بحثا عن الهدوء وعدم الإزعاج، وتبقى وحيدة ... تحاول عبثا أن تغمض جفنيها قليلا عندما يخلد الصبي إلى النوم، إلا أن المنبه يكون لها بالمرصاد، معلنا ساعة القيام لإعداد وجبة الإفطار، وتجهيز الطفلين الآخرين للذهاب إلى المدرسة، لا يعفيها من ذلك ما تشعر به من إرهاق وإعياء. لتنخرط من جديد في تدبير أعباء البيت اليومية، تحاول جاهدة أن تؤدي مهامها على أكمل وجه، من تنظيف وغسل ومسح وطبخ، كل ذلك بموازاة مع الاستجابة لنداءات الرضيع المتكررة. وبحلول المساء ينتظرها شغل آخر، إنه الوفاء بالتزاماتها تجاه الزبونات المتوافدات عليها - خاصة أنها اشتهرت بينهن بطيبة القلب وإتقان العمل- فمنهن من ترغب في خياطة قميص أو تنورة، ومنهن من تريد إدخال تعديلات خاصة على لباس معين ليلائم ذوقها وقوامها. آلام وآمال إنها تفعل كل ذلك أملا في دفع الحاجة التي تلجئها للمساهمة في مصاريف البيت الثقيلة، فزوجها رغم اشتغاله طيلة النهار، لا يتقاضى إلا راتبا هزيلا لا يمَكّنه من تغطية طلبات البيت المتزايدة، أمام ارتفاع الأسعار الصاروخي.
ورغم معاناتها الشديدة - إضافة إلى ثقل الأعباء السابقة - من مكابدة المرض الذي ألم بها إبّان حملها الثاني حيث بدأت تتعرض لنوبات حادة من آلام الظهر، إلا أنها كانت نادرا ما تبدو عليها علامات الشكوى والتبرم، بل كانت الابتسامة لا تكاد تفارق محياها.
ومع أنها كانت لا تفرط في أداء فريضة مهما كان الأمر، وكانت تخصص أوقاتا لتلاوة القرآن وغيره من النوافل، إلا أنها كانت لا تفوت فرصة تخلو فيها بنفسها، إلا وتنفجر باكية، فقد كان شوقها إلى الله كبيرا، وكان إيمانها بالله عظيما، وتتمنى في قرارة نفسها لو تجد من يريحها من كل هذه الأعباء لتتفرغ لعبادة ربها، كانت تريد ليومها أن يمر في صلاة متواصلة، وكانت تحلم أن يكون مسكنها محرابا تنقطع فيه عن العالم... كانت كثيرة التأمل والتفكر، وكان هذا الأمر من الهموم التي تؤرقها.
العابدة الغافلة كان يوم "كريمة" صورة من أيام الآلاف من ربات البيوت، فقد كانت رمزا للعطاء والبذل والسخاء، تجود بوقتها وراحتها وطموحاتها رغبة في إشعاع السعادة على من حولها، لأنها تسعد بسعادتهم، وتفرح بابتساماتهم.
ليتها تدرك أن لها بكل جبهة من هذه الأعمال فضل المجاهد في سبيل الله تعالى، وأعظم بها من وظائف تعادل ما أوردته السير من تثبيت للمحسنين لأعمالهم ووظائفهم بل ولهم البشرى في الدارين...
أليس ذلك هو لب العبادة؟ بلى إنها العبودية في أسمى معانيها...
أليس قلبها دائم التعلق بالله؟ كيف لا وهي تتقن عملها محبة فيه عز وجل، وتسعد ذويها رجاء في قربه وطمعا في رضوانه.
إن كريمة مثال للعابدة الغافلة، تمارس التبتل في أرقى الصور، وهي غافلة عن قيمة ما تفعله، غير مقدرة لنبل وشرف ما تقوم به.
وهل يريد منا سبحانه إلا أن نحفظ أماناتنا ونؤدي رسالاتنا على أكمل وجه، كل في مجاله، الطالب في كليته وربة البيت في بيتها، والمدرس في قسمه...
فلو اتصف أفراد مجتمعنا بإخلاص "كريمة" وتفانيها لكنا في صفوف أسعد المجتمعات وأرقاها.