منذ إندلاع الثورة الفرنسية حتى يومنا هذا ظل علماء الإجتماع والفلسفة والسياسة في جدل عظيم حول عناصر هذه الثورة ومقوماتها ومحركاتها. ومهما قيل عنها فقد ظلت هي المرجع والمقياس الذي قيست عليه جميع الثورات التي جاءت بعدها. وبإستطلاع ألوان الطيف كلها، نجد تبايناً واضحاً بين من يعتبرها إنتفاضة شعبية ومثالاً يحتذى به من جه، ومن يرى انها نتاج مؤامرة قادتها المأسونية العالمية لتزيح من أمامها هيمنة المؤسسة الدينية كما تروج لذلك الكنيسة الكاثولكية. ومهما قيل عن الثورة الفرنسية فإن احداً لا يستطيع أن ينكر آثارها الإجتماعية والسياسية في فرنسا والعالم أجمع. ولسنا بصدد المقارنة بين الثورة الفرنسية من جه وما تلتها من ثورات في العالم، واشهرها الثورة البلشفية ثم الثورة الشيوعية في الصين وإنتهاءً بالثورة الإيرانية على الشاه، فقد افردت لهذه المقارنات رسائل وكتب. إن المقام هاهنا هو محاولة للتعرف على هيكل الثورة الفرنسية ومفاصلها من خلال تحليل إجتماعي وسياسي لحالة المجتمع الفرنسي والذي أدى بالتبعية إلى قيام الثورة. لقد إندلعت هذه الثورة عام 1798م واستمرت حتى العام 1799م. لقد كان هذا العقد الزمني في تاريخ فرنسا عقداً دموياً بإمتياز، وثورةً جمعت بين الرفض الشعبي والإنتقام ومحاولات التصحيح.لقد كان القرنين السابع عشر والثامن عشر هما أوج عصر التنوير في اوروبا حيث إزدهرت فيها العلوم والفنون وأحست الشعوب بأن ثمة شعاع من نور إقتحم عقولها فايقظ الفكرة وأجلى البصيرة وازال القشاوة عن البصر. وتحرر الإنسان من القيود اللاهوتية التي فرضتها عليه الكنيس لزمن طويل، وسرت في نفسه روح الإستقلال ومفهوم قيم الإنسان.وبدأت الطبقة الوسطى الآخذة في الإتساع تعكس مفاهيم التنوير فأخذ الكتاب والمفكرون وأصناف المثقفين على عاتقهم طرح الأفكار وإبداء الأراء وإتخاذ المواقف. إلا أن شيئاً من هذا لم يكن ليؤدي وحده إلى إندلاع ثورة من أشد ثورات الأرض دمويةً وعنفاً. لقد صاحبت تلك الحقبة الزمنية أزمة إقتصادية ونقص في تمويل خزائن الدولة وإرتفاع مخيف للدين العام للدولة، الناتج عن سنوات من الجفاف وضعف الإنتاج الزراعي، وهو ما أدى إلى حالة من التوتر والغضب الإجتماعي بين الطبقات الكادحة شبه المستعبدة لإنهيار قدرتها على توفير أبسط أساسيات الحياة وإستبقائها شبه مستعبدة في إطار القوانين الإقطاعية الظالمة.وقد أحس الارستقراطيون والإقطاعيون ورجال البلاط في عهد لويس الخامس عشر ومن بعده لويس السادس عشر بتفاقم الأزمة وضرورة إيجاد حل يعيد الأمور إلى نصابها وينزع فتيل التوتر. وقبل الإستمرار يجدر بنا هاهنا أن نوضح بأن المراجع التاريخية كانت ولا تزال تؤكد حقيقة تفيد بأن الدين العام للخزينة لم يكن اسواء من حال الدين العام في الدول الأوروبية الأخرى كبريطانيا وألمانيا. ولكن ثمة إختلاف بين هذه الدول يكمن في أمرين الأول: هو ممانعة البنوك في تمويل الخزينة الفرنسية مع قبولها لإقراض دول أخرى أسوأ حالاً فيما يتعلق بالدين العام.ويقول أصحاب النظرة التآمرية أن المأسونية ممثلة في المأسونين الأحرار كانت وراء ذلك وعلى رأس المتبنيين لهذه النظرية هي الكنسية الكاثولكية في ذلك الحين. أما المراجع التاريخية فقد عزت ذلك إلى سوء أنظمة الجباية الضريبية في الدولة وهي ما تعول عليه البنوك لقياس قدرة الدولة على توفير الأموال بغرض تسديدها، ويعزز هذه النظرية المحاولات الحثيثة التي قام بها الملك لويس الخامس عشر ومن بعده الملك لويس السادس عشر لإيجاد حل يكمن في إعادة صياغة النظم المالية، ولكن دون جدوى نظراً لتدخل رجال البلاط والأرستقراطية والإقطاعيين من ملاك الأراضي وكان على رأس هؤلاء الإقطاعيين الكنيسة الكاثولكية في حينها. وكان هدف هذا الإفشال هو تقويض قدرة الدولة على محاسبتهم وجباية الضرائب الحقيقية منهم.والمتأمل للمصادر والمراجع التاريخية لا بد وأن يجمع بين النظريتين حيث أن المأسونيين الأحرار وجدوا في تحالف البلاط والكنيسة الكاثوليكة خطراً على خططهم الرامية إلى إزاحة السلطة الدينية وإحلال مبادئ عامة ذات صبغة علمانية مكانها، بالذات وأن السلطة الدينية في حينها لم تكن تعارض مفهوم التنوير بل أن كثيراً من قساوسة في ذلك العصر أسهموا في شتى مجالات الفنون والعلوم.وفي هذا الجو المشحون الملئ بالأفكار والنظريات ومع بداية ظهور هوة حقيقية بين الطبقة المثقفة الوسطى من جهة والطبقة الارستقراطية من جهة أخرى، فقدت السلطة الحاكمة ممثلة في الاقطاعيين والارستقرطيين وعلى رأسهم لويس السادس عشر القدرة على التوجيه الفكري من خلال إستمالة الطبقة المثقفة التي كان يعدت برأيها وباطروحاتها الإجتماعية والسياسية. وظهرت بوادر هذه الهوة حينما إنحازت تيارات عديدة من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الكادحة مؤيدة لمطالبها ومسلطة للضوء على معاناتها التي لم تجد في الدولة من يعمل على تخفيفها.لقد كانت عزلة الطبقة الحاكمةوإنفصالها الفكري والنفسي عن باقي قطاعات الشعب الفرنسي أول نذير من نذر الثورة الفرنسية.ولكن الثورة لم تكن لتشتعل وتزكى نارها لتأكل الأخضر واليابس لو أن الملك لويس السادس عشر أدرك فداحة الموقف وعمل على إيجاد حلول جذرية في حينها. ولكن الطبقة الارستقراطية ورجال البلاط وهو (لويس السادس عشر) على رأسهم لم يكونوا ليتنازلوا عن شيئ أو يقروا بشيئ أو يسمحوا بشيئ إلا في أضيق الحدود، وعندما يضطرون إلى ذلك إتضطرارا.فكان هذا الأسلوب في حد ذاته، عاملاً على إزكاء نار الثورة، إذ أدركت الجماهير أن الملك (لويس السادس عشر) والطبقة الحاكمة لن يقدموالهم إلا ما يضطرون إليه إضطرارا تحت وطأة الضغط الشعبي المتزايد، وبأن حسه الإنساني لا يدرك مرحلة الإضطرار إلا مع إرتفاع وتيرة الغضب الشعبي والرفض والإضطرابات والمسيرات. كان لويس السادس عشر من حيث يدري أولا يدري عاملاً رئيساً في إستشراء النقمة الشعبية بل وفي خروج الثورة عن سيطرة الحكم من جهة وسيطرةقادتها من جهة أخرى،ومن ثم إنزلاق البلاد نحو فوضى عارمة.وفي العام 1792م عندما فقد لويس السادس عشر جميع أوراق اللعبة، هرب إلى قصر تويلري بعد أن استبدل ثيابه بثياب الخدم البالية المهلهلة وألبس خدمه ثياب الأمراء والارستقراطيين في محاولة منه لتضليل أعين الثوار عن شخصه.ولكن الثوار إستطاعوا أن يتعرفوا عليه بسهولة في منطقة التويلري، وليس ذاك لشهرته ومعرفة العامة بملامح وجهه ولكن لسبب أخر يفصح عن تفكير الذين يعيشون في أبراج عاجية وينفصلون بعقولهم واحاسيسهم وأجسادهم عن كل من سواهم ويرون أن مكتسباتهم حقا ًإلاهياً لهم. لقد تعرف الثوار على الملك لويس السادس عشر الذي كان يرتدي ثياب الخدم المهلهلة بكل بساطة لأنه وهو في رحلة هروبه إلى تويلري كان يستقل العربة الملكية الرسمية المذهبة والتي نقش على جنبيها الشعار الملكي ورفع عليها العلم الملكي وقد حوطها خدم الملك بخيول تسير في تشكيلة عسكرية مراسمية حول العربة التي تجرها الخيول الملكية الخاصة وكان هؤلاء الخدم يرتدون وقتها ثياب الأمراء والارستقراطيين، كل هذا في إطار محاولة التضليل شبه الكوميدية. لقد كانت لحظة القبض على لويس السادس عشر لحظة من لحظات الكوميديا السوداء في أوضح صورها والتي تبين بجلاء إنفصال الملك (لويس السادس عشر) نفسيا وفكريا عن شعبه وعن معنى الإنسان الذي يعيش بكده وجهده. واعتقد صادقاً أن المؤرخين ظلموا زوجة الملك (الملكة ماري أنطونيت) عندما أمرت خدمها بتقديم المشورة إلى الجموع الجائعة المطالبة بكسرة خبز ليبلغوهم بأنهم يمكنهم أن يستعيضوا عن الخبز بالكعك الفرنسي الفاخر، لقد ظلموها إذ جعلوا من هذا الموقف دليلا على العزلة النفسية والإنفصال الفكري، وكان الأولى أن تكون لحظة الإعتقال وأسباب الكشف هي الدليل الذي ليس فوقه حجة.لقد كانا معزوليين عزلة تامة وظنا أن الشعب يقتات على الكعك الفاخر وبأن من الطبيعي أن يستقل الإنسان عربة ملكية مذهبة وهو ينتقل من مكان إلى مكان، لقد كانت بحق هوة فكرية ونفسية حقيقية. لعمرك فقد كانوا في سكرتهم يعمهون.ولعل للحديث بقية