يبدأ الليل من منتصفه, تغفو كائنات الصباح سابحة في بحر من الدجى الحالك, و تتشح المدينة حينها بألوان التبرج و الخلاعة و بعض الغنج و الدلال, و تتحول مصابيحها إلى شموع تذرف ندى الليل الكسيح.
ترى أسراب خفافيش الليل و دبابيرها أمواجا تشق طريقها نحو الحدائق الخلفية تنشد سويعات من النشوة قبل أن تتلاشى في بياض الفجر المتربص.
تسقط الحواجز وسط العتمة و تختلط الأرجل و تتحول إشارات المرور إلى ألوان خضراء, يظنها الرائي غابة نمت أشجارها بين ليلة و ضحاها, في هذا المشهد المثير تتسلل المدينة في ثياب نومها إلى ردهات التاريخ لتستعيد من فصوله ليلة من ليالي الألف و الألف.
بعيدا عن الأضواء و الصخب, تبدو الضاحية هادئة, منازلها كأشباح تسبح في ظلام دامس, لا يعكر صفوه إلا ضوء شاحب متراقص, ينبعث من نافدة بيت يعكس نوره حركات منتظمة لشبح فارع الطول يكاد يصطدم بسقف الغرفة الخشبي, سرعان ما تعرف أنها ليلى العنترية إن كنت طبعا من قاطني دوار فطومة, هذه الآنسة أو السيدة لطالما سمعت حكايات متناسلة كالجراد عنها, آخرها على لسان إمام المسجد الذي يزعم أنه غالبا ما يراها وسط حطام ليل راحل تتعثر الخطى مترنحة ورائحة السكر المزمن تنبعث من شفتيها الرقيقتين, لكن الحق يقال هي حكايات تدور في السر فقط و لا يجرؤ أحد على التلفظ بها في اللقاءات العامة, يقولون أنها من عائلة شخص نافذ في دواليب الدولة و هو ذو كلمة مسموعة فيها و يعرف لدى أصحاب القرار بعنتر, ربما منه استمدت نسبتها, و يزعم البعض أنها حفيدة قائد في عهد الاستعمار له صولات و جولات على حقوق المساكين.
تضع حفيدته ليلى أحمر الشفاه في حركة أخيرة متوجة لسلسلة من بروتوكولات التجميل و ما إن تدق الساعة اللندنية حتى تضع مفاتيح البيت في يد بائع السجائر عبودة.
وفي الجهة المقابلة للحي ينبت حي آخر يسمى حي النفوذ, حينما تتجول فيه لا يقابلك إلا كلب حراسة برفقة حارسه, أو بستاني عائد لتوه, أو صاحب حانة يوشك أن يفتح الباب الآخر المخصص للقمار, الكل هنا أيضا يعرف حكاية أحلام و زوجها نجمي بل صارت موضع تندر المقامرين و صعاليك الأغنياء,و تبدأ حكايتهما حينما يرن هاتفها المحمول في وقت معين بات حارس المجمع يحفظه."ألو, ليلى؟ نعم سأنزل حالا" تنظر أحلام في وجه زوجها لتجد وجهه مغمض العينين غارقا في نومه العميق, تمشي على أطراف أصابعها وما إن يصفع الباب حتى يشيح الغطاء عن جسده و يفتح الباب الخلفي لبائع السجائر عبود.
الساعة منتصف الليل و بعض الدقائق, الشارع خال و الطريق أمام الحي الجامعي أصبح أكثر نشاطا من ذي قبل, وفي الرصيف المقابل للحي تقف لوامع الطالبة بشعبة التاريخ و الجغرافيا, بشعرها الأشقر و قسماتها الهادئة حينما تنظر إليها
و كأنك تقف أمام بدر في ليلته الأخيرة.
تمضي سيارة الأجرة في طريقها المعهود, لتصل إلى بيت منعزل في أحد الأحياء الجانبية البعيدة عن أضواء المدن الكاشفة, ينزل الثلاثي و يصعدن درجا ملتويا يؤدي إلى طابق أغلب الظن أنه الرابع, هناك تبدأ فعليا فصول جديدة من حكايات الألف و الألف دون أن يشعرن بمعنى الزمن
و المكان.
بعد مدة من الزمن أفاقت لوامع من وطأة السكر, فالتفتت يمنة ويسرة فوجدت نفسها وسط طائرة الشبح تحلق عاليا في الأجواء, أحست بذعر شديد, فأخذت توقظ ليلى و أحلام لكنهما مازالتا تحت تأثير مخدر بليغ التأثير. و هي تنظر بعينين مرتابتين إلى لوحة صغيرة مكتوب عليها: "مهمة في إسرائيل"
_________________
.... تغفو كائنات الصباح سابحة في بحر من الدجى الحالك, و تتشح المدينة حينها بألوان التبرج و الخلاعة و بعض الغنج و الدلال, و تتحول مصابيحها إلى شموع تذرف ندى الليل الكسيح.
ترى أسراب خفافيش الليل و دبابيرها أمواجا تشق طريقها نحو الحدائق الخلفية تنشد سويعات من النشوة قبل أن تتلاشى في بياض الفجر المتربص.
تسقط الحواجز وسط العتمة و تختلط الأرجل و تتحول إشارات المرور إلى ألوان خضراء, يظنها الرائي غابة نمت أشجارها بين ليلة و ضحاها....
رائع ... رائع ... رائع أخي الحسين ... اسلوب شاعري ... و انت تقرأ القصة / القصيدة ، تأسرك بلفظها و صورها الشعرية و ديناميتها السريعة... و لا تطلق سراحك حتى تنتهي منها
المتألق المتدفق الشاعر القاص المبدع الحسين النوحي...
لقد رقنت فأجدت وأبدعت...
بدءا أجدد ترحابي بقدومك الزاهي الباهي وبلغتك الشاعرة العالمة...
قرأتك منتشيا متمتعا مستزيدا مستفيدا من لغتك ومن تمكنك من ادوات الحكي وتقنياته...
لي عودة بإذن الله لحكايات الالف والباء والتاء وصولا إلى الياء...
لك الشكر والتقدير والإعجاب بأدبك المتميز
التعديل الأخير تم بواسطة نورالدين شكردة ; 06-02-2009 الساعة 18:50