البحث التربوي: من الملاحظة العلمية وملاحظة الفصل إلى مناهج البحث وتقنياته
ذ. بنعيسى احسينات
1. الملاحظة العلمية
I. تحديدات أولية:
أ - تعريف الملاحظة العلمية: هي، بصفة عامة، مشاهدة الظواهر قصد عزلها وتفكيك مكوناتها الأساسية، للوقوف على طبيعتها وعلاقاتها، والكشف عن التفاعلات بين عناصرها وعواملها.
ب - أنواع الملاحظة:
1. الملاحظة الفرضية: وهي ملاحظة لا تخضع لأي قاعدة ولا تهدف إلى الكشف عن حقيقة علمية موحدة. وهي تدخل في نطاق المعرفة الحسية، والتي تنحصر في بعض المواقف العلمية المحدودة.
2. الملاحظة المنظمة: هذه الملاحظة تدخل في نطاق مشروع محدد للعالم الذي يحصرها في مجال الدراسة، ويمكن أن تكون بسيطة أو طبيعية، إذا ارتكزت على مراقبة سلوك الفرد في حياته اليومية، وهي كالتالي:
- ملاحِظ دون أن يكون ملاحَظ.
- الملاحظة بالمشاركة، حيث يشارك الباحث في حياة الفرد.
- الملاحظة الإكلينيكية، حيث تكون ظروف البيئة محدودة من طرف الباحث.
3. الملاحظة الذاتية: وهي تتعدد وتتشعب، وكثيرا ما يلجأ الباحث في العلوم الإنسانية في دراسته للشخصية مثلا، إلى فهم وملاحظة الوثائق التي وضعها المفحوص بنفسه، مثل الرسائل، والسيرة الذاتية أو الإنشائية... إن الملاحظة الذاتية، تعني في الغالب - خاصة في البحوث المنهجية المنظمة - اللجوء إلى ملء الاستمارات المعدة من طرف الباحث.
II. صعوبات الملاحظة:
أ - صعوبة الإدراك الحسي: تعتبر الملاحظة عملية إدراك حسي لسلوك أو حدث أو إتصالية... ومعلوم أن الإدراك مخطئ... وحتى الفكر كثيرا ما يكون هو نفسه مصدر الخط في عملية الملاحظة. يقول جوته، " إننا لا نرى إلا ما نعرفه ". فقد لا يلاحظ الفرد من الظواهر سوى ما يتصل باهتماماته، وما قد يتفق مع اتجاهاته وأغراضه، إن المعاني توجد في عقول الناس أكثر منها في الموضوعات نفسها.
يجب على الباحث أن يتدرب على القيام بالملاحظة، ليتجنب احتمال الوقوع في الخطأ الإدراكي. لذا عليه، منذ البداية، تحديد ما يلي:
- الوقائع التي ينبغي ملاحظتها.
- كيفية تسجيل الملاحظة.
- استعمال الإجراءات الضرورية للتأكد من دقة الملاحظة. - تحديد نوع العلاقة التي يجب أن تقوم به الملاحظة والملاحِظ وكيفية تكوين هذه العلاقة.
وليس من شك في أن التحديد الدقيق لهذه النقاط، يختلف باختلاف أغراض الملاحظة وأنواع البحوث. ولتغطية النقص التكويني المتمثل في كون الحواس لا تجعلنا ندرك إلا عددا محددا من المثيرات، ونغفل ما يمر منها بإيقاع سريع، يلجأ العلماء إلى أدوات وأجهزة تكمل عمل أعضاء الحس وتؤيده في قدرتها نسبيا، مثل الصور، الأفلام، آلات التسجيل الفيديو، وغير ذلك، والتي تقدم اليوم الأداة الفعالة لتثبيت المدركات، وبالتالي لتركيز الملاحظة. فبإمكان تلك الوسائل، إعادة السلوك موضوع الملاحظة، وبإمكانها تثبيته أو إبطاؤه، الأمر الذي يمكّن الملاحِظ من إدراك دقيق للحظاته في تعاقبها.
ب - صعوبة حضور الملاحِظ: هذا الحضور يثير ردود فعل بالنسبة للملاحَظ من خلال مضايقة الملاحِظ. وقد وضع علماء النفس المربون، لتجاوز ذلك، حجرات ذات رؤيا في اتجاه واحد، كما استفادوا من وسائل أخرى لملاحظة الأصوات أو التسجيل، والتي من شأنها أن تقلل من مضايقة المفحوص.
III. كيفية تسجيل الملاحظة: تتم عملية تسجيل الملاحظة على الشكل التالي:
- تسجل الملاحظة في نفس وقت القيام بالمشاهدة.
- لا يمكن أن تسجل الملاحظة بكيفية مضبوطة سوى السلوك الخارجي المشخص.
- حتى يكون تسجيل الملاحظة غنيا ومفيدا لتقدم البحث، عليه أن يكون تحليليا، أي أن يحلل الموقف أو العملية أو السلوك، أي العناصر والمكونات الأساسية (استبعاد التعميمات والانطباعات).
هناك في البداية عملية كشفية استطلاعية سابقة على البحث وممهدة له، تمكن الباحث من تحديد مجال الملاحظة، ووضع القوائم أو الجداول أو الشبكات، لجمع الاستجابات التي سيتم تسجيلها. ويمكن اللجوء أثناء الملاحظة إلى ثلاثة أساليب في التسجيل:
1. فإما أن نسجل حضور أو غياب استجابات معينة وأثرها (نعم / لا).
2. أو نلجأ إلى عملية تحليلية دقيقة على تقدير مدة أو حدة الاستجابة.
3. أما عندما لا يمثل السلوك اختلافات في الشدة فحسب بل اختلافات نوعية، ففي هذه الحالة، يمكن اعتماد الوصف الكامل لكل مظاهره، أي اعتماد طرق أقل شكلية، مثل كتابة التقارير المفصلة (تقرير المفتشين مثلا).
2. ملاحظة الفصل
I. ملاحظة الفصل وأهدافها:
أ - الملاحظة الكشفية: توظف من أجل الدراسة والبحث، يستعين بها الباحث لضبط مختلف المتغيرات التي تتحكم في ظاهرة التدريس.
ب - الملاحظة التقويمية: وهي ما تقوم به المراقبة التربوية، والهدف منها ملاحظة المدرسين للوقوف على سير الدروس وتقويم حصيلة المدرس ونوعية ممارساته التربوية، ومدى التزامه بالتعليمات الرسمية والتوجيهات المتضمنة في البرامج والمقررات الدراسية... ثم تهدف مبدئيا إلى توعية المدرس وإرشاده، ولإيجاد نوع من التواصل المثمر وتشجيع مختلف أشكال التعاون بين المدرسين من جهة، وبينهم وبين الجهاز الإداري والمشرفين التربويين من جهة أخرى.
وتنتهي عادة تلك الملاحظات، بكتابة تقارير تربوية ومنح نقط وعلامات تفيد المدرسين في ترسمهم في السلك الإداري وفي ترقيتهم. ولكن كثيرا ما يغلب على هذا النوع من الملاحظة طابعا شكليا وآليا. فقد يتخذ الملاحِظ مثلا، موقفا متعاليا مما يخلق جوا من انعدام الود والتواصل، قد يبلغ حدا من التوتر والعصبية، فيتصرف كل من المدرس والمتعلمين تصرفات غير طبيعية... ومن أهداف زيارة الفصول:
- دراسة المواد المقررة التي يتعلمها التلاميذ، ومعرفة صلاحيتها بالنسبة لأهداف التربية وفائدتها، وأهميتها وقيمتها بالنسب للمتعلمين وملائمتها لقدراتهم وحاجاتهم.
- دراسة الوسائل المستخدمة لاستثارة وتوجيه تعلم التلاميذ، والوقوف على الأسس السيكولوجية السليمة، والعمل على تطبيقها على أنواع التعليم الخاصة المطلوب اكتسابها.
- دراسة الوسائل المستخدمة في تقويم نتائج التعليم وطبيعة وسائله وطرق القياس وعلاقاتها بأهداف الموقف التعليمي.
إن الهدف من ملاحظة ما يدور في الفصل، ليس تقدير المدرس وتقويمه فحسب، بل دراسة الموقف التعليمي، أو بعبارة أخرى، دراسة ما يجب أن يحصل عليه التلاميذ والوسائل التي تحقق ذلك. ولا شك أن قيمة الملاحظة كوسيلة من وسائل التقويم التربوي، تضعف بل قد تنعدم، إذا لم يؤخذ بعين الاعتبار هذه الأهداف.
ج - الملاحظة التكوينية: وهي تدخل في إطار التدريب والتكوين، باعتبارها مرحلة مهمة من مراحل إعداد المدرسين، ومن أهدافها:
- التوجيه بين عمل المدارس التي يتم زيارتها وعمل مؤسسات التكوين التربوي.
- توضيح وتفسير النظريات والأسس التربوية.
- مشاهدة ورصد اتجاهات تربوية وأساليب تعليمية وتتبع تطور طرق التدريس.
- وضع الطالب المتدرب في حالة اتصال مباشر مع القسم لمساعدته على فهم حقيقة التعليم، ووضع مقاييس لعمله الخاص.
- المشاركة في المناقشة التربوية التي تعقب الملاحظة، والتي تسمح بإبراز وتقويم العملية التعليمية في مختلف جوانبها.
- التعود على استخدام وسائل مقننة لتسجيل الملاحظة كشبكات الملاحظة، أو التعود على كتابة تقارير تربوية دقيقة في حالة غياب الوسائل المقننة.
- الإعداد التدريجي لوضع وسائل الملاحظة، والعمل على تجريبها قصد تصحيحها وتعديلها قبل مباشرة العمل بها.
- التهيؤ لمرحلة التدريب والإنجاز الفعلي من طرف المتمرنين. فعادة ما تسبق مرحلة ملاحظة القسم أو مرحلة الاستئناس مرحلة التدريب والإنجاز في برامج مؤسسات تكوين أطر التعليم.
لبلوغ هذه الأهداف، تخصص منذ بداية السنة التكوينية جلسات ملاحظة القسم، حسب المراحل الأساسية التالية:
1. مرحلة التهيؤ، حيث يشرع فيها الأساتذة المؤطرون للمتمرنين أهداف الملاحظة، ويقدمون لهم خطة العمل والدور المطلوب منهم القيام به في كل مرحلة.
2. مرحلة الملاحظة العفوية، أي ملاحظة الفصل بشكل عفوي، ودون التقيد بتوجيهات محددة أو بشبكات وقوائم تسجيل الملاحظة.
3. مرحلة الإنتاج، حيث يقوم خلالها الطلبة بالمشاركة مع زملائهم في إعداد وسائل الملاحظة المنهجية (شبكات)، مستفيدين من المادة الخام التي تجمعت لديهم بفعل الملاحظات العفوية وتوجيهات الأساتذة المؤطرين.
4. مرحلة الاستغلال، وهي القيام باستعمال وسائل الملاحظة المنهجية التي أعدها مع زملائه، والقيام بتحضير تقارير، يعرض فيها تحليل ومناقشة وتقويم بعض الأعمال التربوية المنجزة أثناء التداريب.
II. الإعداد لملاحظة الفصل وشروط الإنجاز
من بين الترتيبات التي يجب الاعتناء بها قبل وأثناء الملاحظة، نذكر:
1. تحديد مسبق لمجال الملاحظة، أي تحديد الجوانب التي ستركز عليها المشاهدة، وكلما كانت معروفة مسبقا ومحصورة في عامل واحد أو عاملين، كلما جنّبت الملاحظة التيه والتشتت وعدم الحصول على صورة واضحة لما يجري.
2. تحديد مسبق لوسيلة تسجيل الملاحظة (قوائم، شبكات..)، بمعنى أن يكون الملاحِظ على بينة تامة بوسيلة الملاحظة وكيفية استعمالها.
3. الانتباه إلى كل العوامل المعيقة والمتغيرات المشوشة، والتي كثيرا ما تتدخل لتجعل الملاحِظ لا يدرك السلوك كما هو في حقيقته.
4. أن يقوم الملاحِظ بما يسمى " مسح الطاولة "، أي أن يتخلص من الأحكام المسبقة الجاهزة، والتي تحجب عنه الحقيقة. كما يجب ن يتخلص من آرائه وما سمعه عن المدرس.
5. على الملاحِظ أن يدخل الفصل قبل بداية الحصة وبعد استئذان المدرس المكلف بالتطبيق، وأن يجلس في وضع يمكنه من مشاهدة جميع التلاميذ، دون أن يلفت إليه الأنظار ما أمكن.
6. تنظيم جلسات تربوية لمناقشة مختلف جوانب الملاحظة، وذلك للاستفادة من نتائج الملاحظة وربط المعطيات النظرية بالمعطيات العملية التي سجلت أثناء الملاحظة، واستنتاج ما يجب استنتاجه من خلاصات تربوية.
3. مناهج البحث التربوي و تقنياته
مدخل:
ينصب البحث التربوي بالدراسة والتحليل والتفسير، على الظاهرة التربوية بجميع مكوناتها المتصلة بالمؤسسة ومحيطها، والمدرس والمتعلم، وكذا الفعل البيداغوجي بأهدافه، بمحتواه، بطرقه، بوسائله، بتقويمه وبدعمه.
ففي البحث التربوي، كما هو الشأن بالنسبة للبحث العلمي في العلوم الإنسانية، سواء في السيكولوجية أو السيكوسوسيولوجية أو السوسيولوجية، كثيرا ما يقع الخلط بين عدة مفاهيم كالطرح الإيبستيمولوجي، والطرح الميتودولوجي (المنهجي)، و تقنيات البحث العلمي. لكن يمكن التمييز بين هذه المصطلحات الثلاث من خلال أوجه الاختلاف بينها فيما يتعلق، بالأساس، بمستوى العمومية أو الخصوصية التي تطرح بها القضايا مثل قضايا البحث العلمي:
- فالطرح الإبستيمولوجي هو الأكثر عمومية والأكثر شمولية والأقل دقة، فإبستيمولوجية المعرفة التربوية تنطلق أساسا من تحليل الممارسة التربوية وتتبع مختلف مراحلها والتطورات التي مرت منها، ويكون مجال التركيز فيها، مشكل التأسيس من جهة، ومشكل التوجيه من جهة أخرى.
- والطرح الميتودولوجي (المنهجي)، يكون أقل عمومية وشمولية، وأكثر التصاقا بالممارسة الخاصة بميدان معين، فهو من جهة، يهتم ببعض التساؤلات أو المبادئ التوجيهية أو التأسيسية، على غرار الطرح الإبستيمولوجي، ولكنها تكون هنا مطروحة بصفة تقترب أكثر من الميدان المعني بالأمر. ومن جهة ثانية، فإن الطرح الميتودولوجي يهتم بتقويم مختلف أدوات البحث المستعملة في ميدان البحث، ويقارنها بالمباديء التوجيهية التي انطلق منها.
- أما تقنيات البحث في آخر المطاف، هي مجرد أدوات تسخر لأهداف متعددة، ويقع استعمالها، إما انطلاقا من قناعة مسبقة، بأنها لا تتنافى مع التوجيهات المنهجية العامة، أو أحيانا دون تساؤل مضبوط حول دلالتها و نجاعتها على المستوى الميتودولوجي أو الإبستيمولوجي. فالتركيز على تقنيات البحث، يكون عمل ملموس وأكثر دقة. ولكنه لا يطرح مشكل الدلالة أو التأسيس أو نجاعة استعمال تلك التقنية.
I. مناهج البحث التربوي وتقنياته:
1. مناهج البحث:
هناك عادة أربعة مناهج رئيسية، وهي: - تحليل الوثائق - المناهج التجريبية - الدراسات المسحية - دراسات الحالات.
- تحليل الوثائق: يدور تحليل الوثائق حول دراسة الموضوع حسب المخطط المهيأ له مسبقا، انطلاقا من معلومات إحصائية، أو إعادة استغلال دراسات سابقة، أو انطلاقا من تقارير ومخطوطات وكتابات حول ذلك الموضوع، دون اللجوء إلى المعاينة والتجربة.
- المناهج التجريبية: تعتمد المناهج التجريبية في دراستها للظواهر، على الملاحظة والفرضيات والتجربة، من أجل التوصل إلى حقائق علمية، التي تترجم إلى قوانين يمكن تعميمها على الظواهر المماثلة.
- الدراسات المسحية: تقتضي الدراسات المسحية مجموعة كبيرة من المبحوثين، يقع اختيارها حسب مقاييس معينة، ويتعرض كل واحد منها إلى نفس أدوات البحث، ويطبق أدوات موحدة على جماعة من المبحوثين للحصول على المعطيات التي تحتاج إليها. والمثال الكلاسيكي أو العادي للمنهج المسحي هو دراسة عينة خاصة من السكان بواسطة استمارة يملأها كل واحد منهم.
- دراسة الحالات: إن دراسة الحالات لا تعني القيام ببحث شمولي، بل التركيز على حالات معينة، وجمع أقصى ما يمكن من المعلومات حول تلك الحالات، دون الاهتمام بمقاييس التمثيلية أو التعميم، أو بضرورة تغطية كل أنواع الحالات المتواجدة. فدراسة الحالات تنكب على أفراد دون غيرهم (مثلا 5 مدرسين، نقوم بمقابلتهم فيتكلمون بحرية، وربما يتطلب الأمر القيام بعدة مقابلات مع كل واحد منهم على حدة). فوحدة دراسة الحالات، يمكن أن تكون أفرادا أو مجموعة معينة أو جماعة أو مؤسسات ومنظمات معينة.
2. تقنيات البحث:
عادة ما يقع الاختيار على 5 تقنيات أساسية، وهي: - الملاحظة - المقابلة - الاستمارة - تحليل المحتوى - قياس العلاقات أو السوسيومتريا.
- الملاحظة: إنها ضرورية كيف ما كانت نوعية البحث التربوي، لأنه دون التعرف المباشر على القضايا التي ندرسها، يكون من المحتمل القيام بعدة أخطاء فيما يخص تحليل طبيعتها أو تأويل وتفسير المعطيات التي يمكن أن نحصل عليها بوسائل أخرى. لذا يشترط في الباحث التربوي أن يكون له احتكاك مباشر بموضوع بحثه (مثلا المدرس في قسمه أو الطالب المعلم عند مشاهدة الدروس التجريبية " انظر تعريف الملاحظة وأنواعها، وملاحظة القسم، في منطلق هذا الدرس ").
- المقابلة: هي عبارة عن استجواب لجماعة صغيرة من الأفراد، تتسم في غالب الأحيان بطابع الحرية والمرونة النسبية (غير مقننة)، تتطلب مهارة فنية خاصة، تحدد مدى قدرة الباحث على خلق جو من الثقة بينه وبين مبحوثه، ومدى مرونته وعدم تهربه من القضايا أو الأسئلة المحرجة التي يريد فرضها على المبحوث. إنها تفاعل ما بين إنسان وإنسان، مما يجعل تسلسل المقابلة شيئا لا يمكن التحكم فيه إلا جزئيا، لأن مسارها يتعلق بتطور التفاعلات ما بين الباحث والمبحوث. لقد استعملتها المدرسة الفرويدية، أساسا، كتقنية سيكولوجية للاكتشاف وكوسيلة للعلاج أكثر مما استعملتها كوسيلة لتحصيل المعرفة. والمقابلة أنواع، منها:
1) المقابلة الطبيعية العلاجية: وهي تحتوي على أسئلة قليلة لأن هدف السائل تشجيع المريض على الكلام والتعبير التلقائي، لمعرفة ما يعانيه من عقد وتوترات شعورية ولاشعورية.
2) المقابلة المعمقة: وتهدف إلى اتخاذ موقف من طرف المبحوث، حيث تعطى له حرية شبه مطلقة، ففي غالب الأحيان، يعبر من خلال ذكرياته وتجاربه وظروفه على العوامل التي تؤثر في ميوله واتجاهاته.
3) المقابلة الموجهة: وهي التي يختار فيها الباحث مواضيع معينة تتلخص في أسئلة قلائل، يحاول الحصول من خلالها على أفكار، سلوك، ميول المبحوث الذي تكون لديه الحرية لا بأس بها، فالباحث هو الذي يختار السؤال الذي يريد الجواب عنه. فدور الباحث يقتصر على مراقبة الخروج عن الموضوع.
4) المقابلة ذات الأسئلة المفتوحة: فهي تحدد حرية المبحوث والباحث، حيث تكون للباحث أسئلة مسلسلة، تحتم على المبحوث الإجابة بحرية حسب تدرج معين.
- الاستمارة: إنها ليست مجرد سلسلة من الأسئلة تطرح على المبحوثين، بل هي مجموعة متكاملة من الأسئلة، منظمة ومركزة ومضبوطة، سواء من حيث الصياغة أو الترتيب أو طريقة تسجيل المعلومات، تطرح بصفة موحدة ومراقبة، على عدد هام من المستجوبين، حسب تعليمات معينة من حيث مسؤولية الباحث وطريقة تسجيله للأجوبة ومجال التصرف المتروك له. إن الانتقال من الملاحظة إلى المقابلة ثم إلى الاستمارة، يجعلنا ننتقل إلى إطار يتسم بالقيود المفروضة على الباحث والمبحوث والمستجوب، في مجال هامش التصرف الذي يبقى له.
فالاستمارة تتكون، عادة، من أشكال متعددة من الأسئلة، وعادة يقع المزج بينها. وهي:
1) الأسئلة المغلقة: وهي الأسئلة التي تكون الإجابة عليها محددة مسبقا، باستثناء إضافة ما يطلق عليه بآخر.
2) الأسئلة النصف المغلقة أو النصف المفتوحة: وهي تعطي للمستجوب قائمة أجوبة، علما من أن لائحة الأجوبة لن تغطي إلا جزءا ضئيلا من الأجوبة الممكنة، مع ترك المجال مفتوحا للمبحوث، لكي يضيف جوابا من نوع آخر.
3) الأسئلة المفتوحة: وهي التي تترك الحرية المطلقة للمستجوب، يعبر فيها كما يريد ويرغب. وهي في الغالب تبدأ بلماذا؟ وكيف؟ وما هو رأيك؟...
4) الأسئلة المركبة: وهي التي تكون من نوع ؛ هل تحب مهنة التعليم؟ نعم / لا. إذا كان نعم، لماذا؟ وإذا كان لا، لماذا؟
5) أسئلة الضبط أو أسئلة المراقبة: يلجأ إليها الباحث عمدا، فيكرر نفس الأسئلة بصيغ مختلفة، وفي أماكن متفرقة من الاستمارة. والهدف هو مراقبة صدق المبحوث، إذا تعلق الأمر بمواضيع ذات حساسية أو بمتغيرات ذات أهمية كبرى بالنسبة للبحث.
- تحليل المحتوى: يعتمد تحليل المحتوى على التحليل الممنهج والمنظم لمحتوى وثائق مكتوبة، من حيث نسبة وجود أو غياب بعض السمات فيها، ونوعية العلائق فيما بينها، حسب طرق تزداد أو تقل دقة، وحسب نوعية تحليل المحتوى الذي نريد القيام بها (نصوص، محاضر مقابلات أو ملاحظات، وثائق، إنتاجات فكرية، مقالات...). إلا أن هناك مشاكل عامة، يجب على الباحث العمل على تجنبها، وهي:
1) التزام الموضوعية ما أمكن، والتخلص من الذاتية والمواقف الإيديولوجية، لتجنب الوقوع في الخطأ والانحياز.
2) الفهم التام للغة النص، لأنه ضرورية أساسية في استنباط معناه ودلالته، والوقوف على قيم واتجاهات وآراء صاحبه.
أما بالنسبة لخطوات تحليل المحتوى التي يجتازها الباحث، فهي لا تختلف عن مثيلاتها في البحوث الأخرى في مختلف العلوم الإنسانية، إن لم نقل إنها تكاد تكون واحدة في مختلف العلوم التجريبية. لكن سنركز هنا على ذكر أهم الخطوات التي يقطعها الباحث باستخدام تقنية تحليل المحتوى:
1) التحليل الأولي أو الدراسة الاستطلاعية في تحليل المحتوى.
2) تحليل متن البحث واستغلال مختلف بياناته.
3) التفسير العام لنتائج البحث وتأويله.
- قياس العلاقات أو السوسيومتريا Sociométrie: المقصود بهذه القياسات أو السوسيومترية أن هناك وسائل تستعمل لدراسات نوعية العلاقات الإنسانية ما بين أفراد يتعاملون فيما بينهم بصفة مسترسلة. فهذه القياسات السوسيومترية تنطبق على الجماعات الصغرى كالقسم أو العائلة أو مجموعة صغيرة مكلفة بقيام بعمل معين. من سمات هذه الجماعات أن هناك تعارف شخصي بين أفرادها، وأن مدة التعارف فيما بينهم تكون طويلة ولها تأثير عليهم. هذه الحالة تمكننا من استعمال السوسيومترية، نظرا لمزاياها الخاصة في اختيار أفراد المجموعة، بعضهم لبعض (الإجابة عن الأسئلة: مع من تفضل أن تعمل؟ مثلا)، والتي ستنكب على عمل جماعي معين.
ويعتبر مورينو Moréno، مؤسس الاختبار السوسيومتري، لدراسة بناء الجماعة. وقد أكد هذا الأخير، أن الكائنات الإنسانية، ترتبط فيما بينها من خلال أنماط علائقية ثلاثة: التجاذب - التنافر - اللامبالاة. والاختبار السوسيومتري أداة لدراسة الأبنية الاجتماعية على ضوء ضروب التجاذب والتنافر التي تظهر داخل جماعة ما. ويعتبر قياس قوى الجذب والنفور أهم أهداف هذه الطريقة التي يكاد يقتصر ميدانها على دراسة أبنية الجماعات الصغيرة كجماعة الفصل.
II. مراحل البحث التربوي:
يمر البحث التربوي، كما هو الشأن بالنسبة للبحث العلمي عموما، من 5 مراحل أساسية، وهي:
1. مرحلة التنظير والتوجيه:
ففي هذه المرحلة، يحدد الباحث الاختيارات والمجالات التي سيهتم بها، والتي سوف يتجاهلها. وهي تنبني على تحديد الإشكالية وبناء موضوع البحث، وتحديد الفرضيات والمفاهيم، وكذا تحديد المتغيرات والأبعاد.
2. مرحلة الإعداد:
تقوم هذه المرحلة على تهيئ وسائل البحث الضرورية، منها على سبيل المثال لا الحصر، تهيئ مشروع الاستمارة أو المقابلة، والعمل على اختبارها قبليا. وتهيئ مشروع العينة التي سيجرى عليها البحث وطريقة اختيار هذه العينة. بالإضافة إلى تحضير دفتر التعليمات في ما يخص تطبيق الاستمارة أو المقابلة، والعينة المراد دراستها، وتنظيم ندوة تكوينية للباحثين المنفذين، إذا كان البحث يتطلب أكثر من باحث واحد.
3. مرحلة جمع المعلومات:
تعتمد مرحلة جمع المعلومات على تنفيذ مقتضيات البحث عن طريق التنظيم المادي والمراقبة العلمية للتأكد من النتائج المحصل عليها.
4. مرحلة استخراج المعلومات والنتائج (عملية الفرز والتفريغ):
تقوم هذه المرحلة على تهيئ الجداول والقيام بعمليات حسابية وإحصائية من معدلات ونسب ومعاملات الارتباط والرسوم البيانية وغيرها.
5. مرحلة تحليل و تفسير أو تأويل النتائج وتحرير الموضوع:
هذه المرحلة الأخيرة تقتضي:
- إبراز الملاحظات الأساسية المستنتجة.
- البحث عن أسباب هذه الملاحظات، ثم القيام بالتفسير والتأويل.
- تحديد عواقب هذه الملاحظات وحدودها.
- مقارنة بين نتائجنا ونتائج أخرى مرجعية، أو مع فرضيات انطلقنا منها.
- مرحلة التحرير والطبع.
----------------
ذ. بنعيسى احسينات
_________________
المراجع:
- تقييم التعلم: أسسه وتطبيقاته. محمد زياد حمدان. دار العلم للملايين. بيروت. 1980.
- مناهج البحث في التربية وعلم النفس. دالين فان. ترجمة محمد نبيل نوفل وآخرون. مكتبة الأنجلو المصرية. 1977.
- تحليل العملية التعليمية. محمد الدريج. منشورات مجلة الدراسات النفسية والتربوية. 1983.
- تحليل المضمون ومنهجية البحث. أحمد أوزي. كلية علوم التربية. 1993. (أنضر المراجع الوردة في المرجع).
Les enquêtes sociologiques. Radolphe Ghighione et Benjamin. Malton. 1978 -
Introduction à la recherche sociale. Hubert Blalock. Ducalot. 1978 -
ذ. بنعيسى احسينات