صرخة! كانت صرخاتي لا تجاوز حنجرتي، أو ربما كنت أعتقد ذلك. لا أذكر بالضبط كم مرّ عليَّ من الوقت وأنا أجاهد ليظهر صوتي, ولو حتى بمجرد الهمس. عدة محاولات باءت كلُّها بالفشل, وقبيل لحظات من اكتمال اليأس أدركت سرًّا آخر أكثر خطورة وهو أنَّ أنفاسي هي الأخرى ساكنة.. ساكنة تمامًا، وعلى الفور اكتمل إحساسي بأنَّ القطعة النابضة في صدري متوقفة أيضًا. سكونٌ قاتل.. وحالة مفزعة من الشلل الذي أصاب كل ما حولي، ربما كانت رقدة الموت. حاولت أنْ أتذكر منذ متى وأنا على تلك الحالة؛ لكنني أدركت بعد محاولات عدة أنَّ عقلي أيضًا متوقف عن إدراك أي شئ.. وأنه أصبح كقطعة الحديد الصدئة التي أكلها الدهر وغيَّب معالمها ولا يمكن أن تستبين لها أي ملامح تدل على هويتها. لكن الغريب هو رغبتي الجامحة في الصراخ! نعم أريد أن صرخ.. بكل قوة، لعلها تبدد ما تراكم على صدري من ظلام وفناء وخوف, لعل هناك من يسمعني فيخبرني بسرّ رقدتي في هذا الظلام المطبق على أنفاسي, وذاكرتي وقلبي وإحساسي و.. وكل شيء.. آه يا الله.. ماذا أفعل؟ كم مرّ عليّ من الوقت؟! ظللت أهذي بكلمات وعبارات لا أعرف كنهها، كانت تخرج من أعماقي محمومة وتضيع من ذاكرتي بمجرد خروجها.. كنت أُمعن في مطاردتها فتتلاشى تمامًا, كالدخان الذي يصعد طالبًا الحياة فوق بساط الهواء لكنه سرعان ما يضيع وينتهي. لا شك أني قد مِتُّ منذ أيام.. أو ربما شهور أو سنوات، وأنَّ جسدي الآن قد تلاشى ولم يعد لي غير جمجمة وبعض عظام.. لا يهم في تلك الحالة أن أعرف ما هي قصة موتي، فبالتأكيد لم تكن لحياتي أية قيمة, أو ربما لم تكن لي حياة أصلاً.. أو أنّي لا أزال رابضًا في رحم أمي, ولم أولد بعد, وأنَّ ما أشعر به الآن من حالة الرغبة في البكاء هي العلة التي من أجلها أخرج صارخًا حينما ترتطم عيني بأول شعاع نور. آه يا الله.. كم أنا محتاج أن أصرخ! منذ سنوات طويلة ضاربة في أعماق التاريخ وأنا أريد أن أصرخ! هذيان.. حالة شرسة من الاختناق تبعتها حالة غريبة من السكون.. حالة من الخدر والصمت لخواطري المحمومة بدأت أشعر بها الآن... تبعتها... "تك ..تك.. تك" صوت يشق رقدة السكون، مضخّات هائلة تقرع طبلة أذني، شهيق طويل يتبعه زفير أطول، دوائر وخطوط متداخلة ومتشابكة بشكل معقد. أحسست ساعتها بأني أعرف شيئًا لكني غير قادر على إدراكه. "تك.. تك.. تك.. تك.. تك.. تك" أعرف هذا الصوت تمامًا، نعم أسمعه كثيرًا.. دائمًا ما يزعجني غير أنّه الآن... لا أعرف.. يا رب أريد أن أصرخ! توهّمتُ أني تحركت واستطعت أن أُموِّج كتفيَّ قليلاً.. حاولتُ أن أفك جسدي من هذه الأغلال أكثر فاجتاحتني موجة من الحماس استطعت – أو ربما توهّمت – على أثرها أن أحرك جسدي بشدة وبشكل هستيري ليصبح في انفعاله أشبه برقصة الطير المذبوح، وحينما حاولت الصراخ اكتشفت أنَّ صوتي لم يعد بعد. لا أعرف كم مرّ عليّ من الوقت وأنا على هذه الحالة, غير أنه في لحظة واحدة تبدد كل شيء، تبددت من ذاكرتي كل الدوائر السوداء, وبدأت أشعر بأنَّ الظلام الجاثم فوق صدري نهض وابتعد عني تمامًا وانكشف أمامي كل شيء.. كل شيء عاد وبسرعة شديدة وفي أقل من لحظة! "تك.. تك ..تك ..تك".. ساعة الحائط.. المزعجة!, ترى كم الساعة الآن؟ لا يُهم.. مرة واحدة وفي أقل من ثانية قرّرت أن أفعلها.. أن أخرج من وداعتي وهدوئي الممل الذي طالما أشاد به الحمقى من حولي.. أيا كان ما حدث بعد ذلك من استيقاظ أبويّ وارتجاج إخوتي في الحجرة وهلع الجيران.. المهم.. أنني أطلقت هذه الصرخة التي أعلنت وجود الحياة من جديد.. والتي كانت محبوسة داخلي منذ زمن لا أعرف مداه.