عباد الله
محبة الله هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون
وإليها شخص العاملون وإلى علمها شمر السابقون
وعليها تفانى المحبون وبروح نسيمها تروح العابدون
فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون
و هي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات
و الشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام
و اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام
هي روح الإيمان و الأعمال و المقامات و الأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه
تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها
و توصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها
و تبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها
و هي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائما إلى الحبيب وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب
تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب
فيالها من نعمة على المحبين سابغة !!
تالله لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون ,و قد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون
من لي بمثل سيرك المدلل ... تمشي رويدا وتجي في الأول
أجابوا منادي الشوق إذ نادى بهم حي على الفلاح ,و بذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم و كان بذلهم بالرضى والسماح و واصلوا إليه المسير بالإدلاج و الغدو والرواح
تالله لقد حمدوا عند الوصول سراهم وشكروا مولاهم على ما أعطاهم
و إنما يحمد القوم السرى عند الصباح
أول نقدة من أثمان المحبة بذل الروح فما للمفلس الجبان البخيل وسومها ؟ًَ!
بدم المحب يباع وصلهم ... فمن الذي يبتاع بالثمن
تالله ما هزلت فيستامها المفلسون و لا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون
لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد ,فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس
فتأخر البطالون وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنا, فدارت السلعة بينهم و وقعت في يد :
(أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين )
لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حُرقة الشجي
فتنوع المدعون في الشهود فقيل لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة:
(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )
فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله و أقواله وأخلاقه فطولبوا بعدالة البينة بتزكية:
( يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم )
فتأخرا أكثر المحبين وقام المجاهدون فقيل لهم إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فهلموا إلى بيعة :
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة )
فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع عرفوا قدر السلعة وأن لها شأنا فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس, فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار وقالوا :
و الله لا نقيلك ولا نستقيلك
فلما تم العقد و سلموا المبيع قيل لهم :
مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت و أضعافها معا:
(و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله )
إذا غرست شجرة المحبة في القلب, و سقيت بماء الإخلاص و متابعة الحبيب أثمرت أنواع الثمار و آتت أكلها كل حين بإذن ربها, أصلها ثابت في قرار القلب وفرعها متصل بسدرة المنتهى
لا يزال سعي المحب صاعدا إلى حبيبه لا يحجبه دونه شيء:
( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه )
مدارج السالكين/ ابن القيم