عذر أقبح من الزلة:
التهرب من بحور الشعر.. بدعوى مواكبة العصر!
هل أصبحت الأوزان الشعرية تخيف البعض؟ وهل أصبحت مواكبة العصر عند البعض ذريعة لتغطية الجهل بهذه الأوزان وعدم القدرة على نظم الشعر عليها؟ وهل أصبح تطوير الشعر في نظر البعض هو تجريده من الوزن والقافية والروي؟ وما الفرق بينه وبين النثر في هذه الحالة؟
أصبح اليوم النثر الذي يسميه كتابه شعرا يصول ويجول في الساحة الأدبية، وأصبحت صفحات العديد من الجرائد والمجلات تقدم للقارئ كل يوم زخما كبيرا من الكتابات النثرية تحت اسم الشعر، دون أن يستطيع أحد أن يستنكر ذلك، خصوصا عندما نعلم أن القارئ العادي الذي لا يمتلك السليقة الشعرية، لا يستطيع تمييز الشعر الموزون عن غيره، ويقرأ هذه النصوص، ويصدق أنها شعر، وبالتالي يكون نظرة سيئة عن الشعر، وقد يجعله ذلك يكف عن مطالعته، ويقتنع بأن الشعر الجميل ذهب إلى غير رجعة مع الأولين.
يبدو أن الوزن أصبح اليوم العائق الأكبر أمام كل من "يريد أن يصبح شاعرا"، وهذا الوزن تكمن أهميته في كونه يعطينا نصا فنيا مموسقا ومضبوطا من الناحية الإيقاعية؛ فصياغة قلائد الشعر الموزون يتطلب من المبدع بذل مجهود أكبر، ويحتاج موهبة أعلى، لأنه يلعب على المعادلة الثلاثية التي تجمع الوزن والمعنى وال قافية، وينتج نصا مموسقا محسوب الحركات والسكنات، بغاية الوصول إلى منتوج فني بمواصفات خاصة؛ من هنا فالشعر الموزون غير الكتابة النثرية، ويجب التمييز بينهما، فلكل مجتهد نصيب، وليس من يجتهد ويشتغل على معادلة ثلاثية كمن يكتب بدون قيود.
هذا اللون الجديد من الكتابة، الذي تهكمت عليه ذات يوم الراحلة نازك الملائكة، وسمته "شعر الوزن غير الموزون" على سبيل السخرية، نتج عن فهم خاطئ، متعمد أو غير متعمد، لما يصطلح عليه بالقصيدة النثرية، التي ظهرت خلال ستينيات القرن الماضي، على يد مجموعة من الرواد، كأنسي الحاج وأدونيس، الذين كتبوا قصيدة النثر باعتبارها تجربة جديدة، وتعمدوا تسميتها "قصيدة النثر"، للتفريق بينها وبين "قصيدة الشعر". فهي إذن نثرية وليست شعرية، والمغرب والعالم العربي يزخران بالعديد من الكتاب المجيدين الذين برعوا في كتابة قصيدة النثر، لكنهم فتحوا بها الباب ـ دون قصدـ لأعداد من المتشاعرين الذين يتكلمون عن تجاوز الأوزان، وهم لا يعرفون عنها شيئا.
وإذا كانت القصيدة النثرية لونا أدبيا تعبيريا حديثا، فهذا ليس مكمن الخلل، ولكن الإشكال الذي طرحته، هو أنها سهلت على البعض كتابة أي كلام، وإسقاط صفة الشعر عليه إسقاطا. وأصبح الكثير من الكتاب الجدد يخلطون قصيدة النثر مع الشعر، ويختبئون وراءها تهربا من البحور الخليلية التي تستعصي عليهم، مستفيدين من سهولة الكتابة النثرية، وفي نفس الوقت، تقربا من اكتساب لقب"شاعر"، وبالمقابل، أصبح الشاعر الضابط للعروض، والمتمكن من اللغة العربية، غريبا في زمن الكتابة الرديئة.
وحتى بالنظر إلى مقومات القصيدة النثرية، فهذه النصوص الضعيفة التي أصبحت تغزو المنابر الأدبية، لا تستحق حتى أن تندرج في إطار قصيدة النثر، لأنها لا تتوفر حتى على مقومات قصيدة النثر، التي تصفها الأديبة " سوزان برنار" بأنها قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور.
ويبقى السؤال الذي لم أجد له جوابا لحد الآن هو: إذا كتب كاتب نثرا، فلماذا يصر على تسميته شعرا؟ وهل تسمية النثر نثرا عيب؟
أنس العقلي
صحفي وشاعر
d8s