:: مراقبة عامة ::
تاريخ التسجيل: 19 - 10 - 2013
المشاركات: 12,032
|
نشاط [ nadiazou ]
معدل تقييم المستوى:
1386
|
|
أخـلاق الحيـوان..
04-01-2016, 22:47
المشاركة 149
مازلت أكافح بكل ما أوتيت من قوة لأقنع محدثي أن ما قاله شيخنا هيجل(18311770) هو عين الصواب
وهو أن الحيوان يفتقر إلي الدين بقدر ما يفتقر إلي القانون والأخلاق( موسوعة العلوم الفلسفية ص4847 من ترجمتنا العربية)- والواقع أن هيجل ينفي عن الحيوان مجموعة كبيرة من الخصائص الأساسية التي ينسبها للإنسان مثل: اللغة, والوعي الذاتي( فليس في استطاعة الحيوان إدراك ذاته) والتفكير.. إلخ. وفي ظني أن أوضح هذه الخصائص جميعا هي السلوك الأخلاقي, الذي ينبغي علينا أن نتفق في الحال أنه سلوك إنساني خالص. لكن قطاعا عريضا من البشر في مجتمعنا يذهب في طريق معاكس ويعتقدون أن للحيوان أخلاقا, ويغالي بعضهم إلي حد القول إن بعض الحيوانات أرقي في أخلاقها من الإنسان, فالكلب أكثر وفاء من الإنسان, وكذلك الحصان أشد أخلاصا منه..إلخ. فلو أن الله وهب الكلب اللسان لشكر في الوقت الذي يجحد فيه الإنسان! لا يغدر بك, ولا يخونك, ولا يحسدك علي ما لديك من نعم كما يفعل الإنسان! أتستطيع أن تطبق الحكمة الشهيرة: أتق شر من أحسنت إليه علي الحيوان بعامة والكلب بخاصة؟ كلا لأن الكلب حين تحسن إليه, تطعمه, وتؤوية, تداعبه, وتسقيه. فإنك تطمئن تماما لوفائه لأنه سيحفظ هذا الإحسان دائما. وسيعترف بالجميل إلي أن يموت.
كما أنك تجد منهم من يذهب أيضا إلي أن الحصان أكثر إخلاصا من بني البشر- وينسجون القصص والحكايات التي يدعمون بها رأيهم ويبرهنون من خلالها علي أن الأخلاق الحقيقية هي أخلاق الحيوان كالقصة الشهيرة عن الأعرابي الذي تركه أعداؤه جريحا بعد معركة معهم فحمله حصانه إلي قبيلته جرحيا, وفي رواية أخري أنه ذهب وأستدعي نفرأ من أفراد القبيلة..! وهناك من يناصر الحيوان ويدافع عنه وعن أخلاقياته, لكن بطريقة أكثر اعتدالا من المتطرفين السابقين, إذ ينسب للحيوان فضائل كثيرة, لكنه يعترف في الوقت نفسه برذائله أيضا أعني أنه يذهب إلي أن الحيوان كالإنسان تماما, له سلوكه الأخلاقي بكل ما تحمله كلمة الأخلاق من فضائل ورذائل, وخير وشر..! وعلينا الآن أن نعرض نماذج من أخلاقيات الحيوان علي نحو ما يعرضها علينا أصحاب هذه الوجهة من النظر مرجئين التعقيب عليها ومناقشتها إلي نهاية المقال.
لعل أكبر نصير للحيوان في تراثنا العربي عمرو بن بحر الجاحظ(768775) الذي ألف كتابا يحمل اسم الحيوان عرض فيه لتصنيف الحيوانات وأنواعها وأجناسها وفصائلها ومناقبها وطباعها.. إلخ ويمكن أن نسوق نماذج لفضائل الحيوان كما ذكرها الجاحظ:
يري أن فضيلة العصافير حبها الشديد لصغارها وعطفها وحنانها عليهم يقول: ليس في الأرض طائر ولا سبع, ولا بهيمة أحني علي ولده ولا أشد به شغفا وعليه إشفاقا من العصافير.
ويسوق الجاحظ مشهدا حيا تبرز فيه هذه الفضيلة واضحة وهو الموقف الذي تهاجم فيه الحية صغار العصافير وما ينتاب الأم من ذعر وهلع: يري العصفور الحية قد أقبلت نحو جحره وعشه ووكره لتأكل بيضه وفراخه, فيصيح; لا يسمع صوته عصفور إلا أقبل عليه, وصنع مثل صنيعه بتحرق ولوعة وقلق, وربما أفلت الفرخ وسقط إلي الأرض-وقد ذهبت الحية فيجتمعن حوله.! ويشير الجاحظ هنا إلي حب العصافير لصغارها من ناحية, وما بين بعضها البعض من مشاركة وجدانية كلما ألم بها حادث أو صادفها مكروه!
أما فضيلة القطة عند الجاحظ فهي الإيثار وليس الشوق إلي الحرية كما كان يظن المنفلوطي! لأنها تؤثر صغارها علي نفسها حتي ولو كانت جائعة.. إلخ, راجع كتابنا فلسفة الأخلاق حيث عالجت هذه الموضوعات باستفاضة].
أما الكلب فإن الجاحظ يفرد له فصولا طويلة يعرض فيها مناقبة وفضائله المتعددة بأسرها شديد فيأخذ عن كرم الكلاب, والكلب يحرس ربه ويحمي حريمه شاهدا وغائبا وذاكرا وغافلا ويسوق الكثير من القصص التي تبرهن علي ما يقول( ومن أراد أن يستزيد فليرجع إلي كتابنا السابق].. ونريد الآن أن نكتفي بما سقناه من أمثلة ودلائل وهي كلها في نظرنا لا تبرهن علي أن سلوك الحيوان أخلاقي بل محايد أعني أنه لا يوصف لا بالفضيلة ولا بالرذيلة.! فالسلوك علي ثلاثة أنواع فهو إما أن يكون أخلاقياMoral كالأمانة والصدق.. إلخ. أو غير أخلاقيimmoral كالسرقة والشره والكذب.. إلخ. أو لا يدخل نطاق الأخلاق علي الإطلاقa-moral كسلوك الحيوان والجماد: فقطعة الورق التي أكتب عليها الآن لا هي خير ولا شر. فقد تكون خيرا إذا كتبت عليها مقالا يفيد الناس وقد تكون شرا إذا أشعلت فيها النار لأحرق المكتبة وما فيها من كتب! والمبضع في يد الجراح قد يكون خيرا إذا أجري به عملية جراحية لاستئصال ورم من مريض لكنه قد يكون شرا إذا ذبح به هذا المريض! والواقع أن ما يوصف بالخير أو الشر في هذين المثالين هو سلوك الإنسان الذي يرتكب الفعلين!
ذلك لأن الفعل الأخلاقي له مواصفات خاصة أو شروط معينة نوجزها فيما يلي:-
لابد للفعل الأخلاقي أن يكون حرا, فإذا كانت الأفعال الأخلاقية تخضع للاستحسان إذا كانت فاضلة وخيره وللاستهجان إذا كانت رذلة أو شريرة, أعني إذا أمكن أن يكون هنا ضرب من الثواب والعقاب بالنسبة للفعل الأخلاقي فإنه يشترط أن يكون لدي الكائن الذي صدر عنه هذا الفعل القدرة علي الاختيار, بحيث أستحسنه إذا اختاره وكان فاضلا أو أستهجنه إذا كان رذلا. وتعريف الفعل الحر هو أنه ذلك الفعل الذي كان يمكن للفعل أن يختاره سواه. فإذا لم يكن الفعل حرا خرج عن دائرة الأخلاق, حتي ولو كان فعلا بشريا. ذلك لأن الفعل الذي يجبر عليه صاحبه لا يمكن أن يكون موضع مدح أو قدح. فإذا أرتكب شخص ما فعلا سيئا كالسرقة تحت تهديد خنجر في ظهره فإن عمله لا يمكن أن يوصف بأنه أخلاقي أو غير أخلاقي لأن عمله, في الواقع, ليس له( ولذا لا يحاسبه عليه القانون, وإنما يحاسب ذلك الشخص الذي هدده وأجبره علي السرقة)- وقل مثل ذلك في إنسان أجبر علي فعل الخير فأفرض أن شخصا ذهب إلي ثري بخيل وهدده بمسدسه أن يتبرع بجزء من أمواله للفقراء أو المساكين وأفرض أن البخيل استسلم وتبرع أيكون فعله في هذه الحالة أخلاقيا؟ كلا لأن شرط الفعل الأخلاقي أن يكون حرا وأن يصدر عن صاحبه باختياره هو!
فإذا كان فعل الحيوان غريزيا أي ليس حرا فلا يمكن أن يكون فعلا أخلاقيا وإنما هو من قبيل العمليات البيولوجية في الإنسان..!
ومن شروط الفعل الأخلاقي أيضا أن يكون مقصودا فلا يأتي إتفاقا مع الأخلاق فإذا أكلت حتي شبعت بعد صوم يوم طويل ثم ألقيت بالطعام المتبقي إلي جوار الحائط وجاء رجل صائم يتضوع جوعا وأكل وشبع أيكون سلوكي أخلاقيا في هذه الحالة؟ كلا! حتي مع أنه أتفق مصادفة مع الأخلاق إلا أن هذا الاتفاق لم يكن مقصودا!
ومن شروط الفعل الأخلاقي أيضا أن يصدر عن نية حسنة حتي إذا لم تتحقق هذه النية فالطبيب الذي هبط من منزله مسرعا لكي ينقذ مريضا لكنه تأخر في الطريق بسبب حادث في الطريق أو عطل في سيارته أو غير ذلك من الأعطال الخارجة عن أرادته يظل فعله أخلاقيا حتي إذا وصل بعد وفاة المريض!
وأخيرا لابد أن يكون فعلا عاقلا لا هو طبيعي ولا غريزي ولا حيواني.. إلخ أي باختصار فعلا يقوم به إنسان.
ومن هنا جاء الحديث الشريف: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق! والمقصود هنا بالطبع الأخلاق الإنسانية وليست أخلاق الحيوان, لأن الحيوان لا أخلاق له كما أنه لا دين له, ولا قانون!
امام عبد الفتاح امام
|