شهرُ ربيعٍ الأول شهرُ الاحتفاءِ بمولدِ الرحمةِ المُهْدَاةصلى الله عليه وسلم
في شهر ربيع الأول من عام الفيل أهدى الله سبحانه وتعالى البشريّة هديةً عظيمةً متميزةً هي حبيبه المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال : (أنا رحمةٌ مهداة) بعد الانقطاع الطويل ليكون خَاتَم الأنبياء والمرسلين الذي سيختم برسالته الرسالات ويأتي بأكملها وخاتمتها.
لقد ولد نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل ، فترة كان الإنسان يسجد فيها للحجر والشجر والنهر والنار ، ويعيش في مجتمع أصبح فيه الذئب راعياً والخصم الجائر قاضياً والمجرم سعيداً حظيّاً والصالح محروماً شقيّاً ، المواهب البشرية ضائعة أو زائغة ، تحولت الشجاعة فَتْكاً وهمجيّة ، والجود تبذيراً وإسرافاً ، والأَنَفَة حميّة جاهلية، والذكاء شطارة وخديعة ، والعقل وسيلة لابتكار الجنايات ، والإبداع لإرضاء الشهوات، الأمم قطعان من الغنم ليس لها راعٍ، والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه ، والسلطان كسيف في يد سكران يجرح به نفسه ويجرح به أولاده وإخوانه ، أعراف... وعادات... وتقاليد... فاسدة تستعجل انهيار البشرية وتسوقها إلى هوة الهلاك.
ولد صلوات الله وسلامه عليه والإنسانية تتطلب الإصلاح من مصلح يأتي البيوت من أبوابها ، يعرف أقفال الطبيعة البشرية ومفتاحها، فكان هو المصلح الرحمة المهداة محمد ابن عبد الله بن عبد المطلب عليه الصلاة والسلام الذي قال عنه القرآن الكريم : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.
لقد كان صلوات الله وسلامه عليه رحمة لنفسه الشريفة : عرف الله فلزم توحيده وعبادته، وعرف الحقّ فثبت عليه ، وعرف الخير فأكثر من فعله ، وكان كثير المراقبة لله عز وجل، واسع الخشية منه ، عظيم العبادة له ، في الليل متهجداً راكعاً ساجداً حتى تتورّم قدماه، وتفيض عيناه بالدَّمع من خشية الله حتى يُسمع لصدره أزيزاً كأزيز المِرْجَل من البكاء، فتقول له في ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها : أتفعل ذلك يا رسول الله وقد غَفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيجيبها : (أفلا أكون عبداً شكوراً) .
وكان صلوات الله وسلامه عليه رحمة لبني قومه ، قويّاً في إيمانه ، مُعتزاً بكرامته ، ملتزماً حدود ربّه ، ما انتصر لنفسه قط ، وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وما تنازل عن مصلحة إلا لدرء مفسدة أكبر منها ، وما فكّر يوماً في الانعزال عن قومه إلا سنوات غار حراء للتفكير في أحسن السبل لهدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور .
وكان صلوات الله وسلامه عليه رحمة للبشرية جمعاء فدار حول هدفه التبليغيّ عن الله تعالى مستخدماً كل وسيلة من وسـائل الإقناع السلمي متحملاً الأذى ولسان حاله يقول : (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، وإني لأرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يوحِّد الله تعالى) .
لقد بُعث صلوات الله وسلامه عليه بدين الرحمة واستطاع تشييد أعظم الحضارات البشريّة في مدة لا تزيد على خمسة وعشرين عاماً فقط ، والبشرية برمتها لا تزال تنظر بعين الإجلال إلى هذا الإنجاز الفريد من نوعه على مرِّ التاريخ ، وحتى هذه اللحظة تقف الإنسانية عاجزة عن تشييد نظير للصرح الساميّ الحضاريّ الإسلاميّ المحمديّ الذي كانت أبرز مقوماته النهوض بمستوى الإنسان الروحيّ والعقليّ وتوفير الأمن والسلام وإعداد الناس نحو التطور المدنيّ ، ومهما حاول الغربيون وصف مدنيتهم وعولمتهم فإنّ وصفهم لا يعدو أن يكون بمثابة القشور لما تخفيه هذه المدنيّة والعولمة من جاهلية وشعوبية وعنصريّة مقيتة - عرقيّة ودينيّة وجغرافيّة - والنماذج كثيرة على ذلك حيث نجد النظرة الاستعلائيّة التي ينطلق منها الغربيون في التعامل مع بقية الشعوب بما تحوي هذه النظرة - الاستراتيجية - من حروب وفتن واستعمار وتقييد وماديّة .
إننا ونحن نعيشُ شهر ربيع الأول شهر الإحتفاء بالمولد النبويّ الشريف ينبغي علينا أن نجعل من مولدِه وسيرته المباركة العطرة مشعلاً وقدوةً في نفوسنا ، ومحطةَ تحول في حياتنا وواقعنا ، فهو القائل عليه الصلاة والسلام : (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم) ، والقائل : (المسلمون تتكافأُ دماؤُهم ويسعى بذمتهم أدناهم) ، وخاطب المسلمين كافــة بالقـول: (كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيته) ، وهذا يعني أن المسلمين ومهما تفاوتت قوميَّتهم وألسنتهــم ومواقعهم الجغرافيّة يبقوا مسؤولين عن بعضهم البعض أمام الله سبحانه وتعالى وأمام التاريخ ليحددوا موقعهم تجاه الأمم الأخرى برسالة الرحمة والاعتدال والوسطية التي بُعث بها نبيّهم الكريم .
الشيخ عبد اللطيف دريان