ألّف الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي رسالة سماها :
(حسن المقصد في عمل المولد ) وهي مطبوعة ضمن كتابه (الحاوي للفتاوي ) ، نقل فيها انتقادات المنكرين ، وأجوبة المقرّين ، ثم أبدى رأيه خلال مناقشتهم في أدلتهم وسنورد ملخصاً لما جاء فيها :
{ الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد :
فقد وقع السؤال عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول ، ما حكمه من حيث الشرع ؟ وهل هو محمود أومذموم ؟ وهل يُثاب فاعله أو لا ؟
الجواب عندي : أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ، ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وما وقع في مولده من الآيات ، ثم يُمَدّ لهم سِماطٌ يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك ، هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم ، وإظهار الفرح والإستبشار بمولده الشريف } .
ثم أورد الإمام السيوطي قول الشيخ الفاكهاني من متأخري المالكية ، والذي ينكر عمل المولد ويصفه ( بالبدعة المذمومة ، , وأنه لا أصل له في الكتاب أوالسنة ، ولم يُنقل عن أحد من الصحابة أو التابعين أو علماء الأمة ، وأننا لو أدرنا عليه الأحكام الخمسة لقلنا :
إما أن يكون واجباً أو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً أومحرّماً ، فهو ليس بواجب إجماعاً ، ولا مندوباً ، لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه ، وهذا لم يأذن فيه الشرع ، ولا فعله الصحابة ولا التابعون المتدينون ، و لامباحاً لأن الإبتداع في الدين ليس مباحاً ، فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً أو حراما ) .
ثم أورد الفاكهاني قول الإمام أبي عمرو بن العلاء حيث قال :
( الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم هو بعينه الشهر الذي توفي فيه ، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه ) . انتهى
ويرد الإمام السيوطي بقوله :
أما قوله : ( لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ) فيُقال عليه : نفي العلم لا يلزم نفي الوجود ، وقد استخرج له إمام الحفاظ ابن حجر أصلاً من السنة ، واستخرجت له أنا أصلاً ثانياً وسيأتي ذكرهما بعد هذا .
وقوله : ( بل هو بدعة أحدثها البطالون ) إلى قوله : ( ولا العلماء المتدينون )، فيُقال عليه :
قد تقدّم أنه أحدثه ملك عادل عالم ,هو : (المظفر) صاحب اربل ،وقصد به التقرب إلى الله تعالى ، وحضر عنده فيه العلماء والصلحاء من غير نكير منهم ، وارتضاه ابن دحية وصنف له من أجله كتاباً ، فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه
، وقوله : ( ولا مندوبا ) يُقال عليه : إن الطلب في المندوب تارة يكون بالنص ، وتارة يكون بالقياس ، وهذا وإن لم يرد فيه نص ففيه القياس على الأصلين الآتي ذكرهما .
وقوله : ( ولاجائز أن يكون مباحاً )، كلام غير مسلّم ، لأن البدعة لم تنحصر في الحرام والمكروه ، بل قد تكون أيضا مباحةً ومندوبة وواجبة ، قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات : البدعة في الشرع هي إحداث مالم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة ، وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد :
البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة ، والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة ، فإذا دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة ...... الخ ، وروى البيهقي باسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي قال :
المحدثات من الأمور ضربان ، أحدهما ما أُحدث مما يُخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً فهذه البدعة الضلالة ، وما أحدث من الخير لاخلاف فيه لواحد من هذا فهذه محدثة غير مذمومة ، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قيام شهر رمضان : ( نعمت البدعة هذه ) يعني أنها مُحدثة لم تكن ، وإذا كانت فليس فيها ردّ
لما مضى . هذا آخر كلام الشافعي .
وقوله : ( أنه شهر وفاته صلى الله عليه وسلم أيضا )، فيقال :
أن ولادته صلى الله عليه وسلم أعظم النعم علينا ، ووفاته أعظم المصائب لنا ، والشريعة حثت على إظهار شكر النعم ، والصبر والسكون والكتم عند المصائب ، وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة وهي إظهار شكر وفرح بالمولود ، ولم يأمر عند الموت بذبح ولا غيره ، بل نهى عن النياحة والجزع ' فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم دون إظهار الحزن فيه بوفاته .
ثم ينقل السيوطي قول الإمام ابن حجر عندما سُئل عن عمل المولد فقال:_
ورجاء لو تنظروا للقياس الجميل الذي استند عليه الإمام العلم ابن حجر_ الجملة السابقة من عندي _
أصل عمل المولد بدعة لم تُنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها ، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا ، قال : وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قَدِم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فسألهم فقالوا : هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى ، فنحن نصومه شكراً لله تعالى ،فيُستفاد منه فعل الشكر لله على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أودفع نقمة ، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي ، نبي الرحمة في ذلك اليوم ؟
ثم يقول الإمام السيوطي – رحمه الله - :
وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عقّ عن نفسه بعد النبوة ، مع أنه ورد أن جدّه عبد المطلب عقّ عنه في سابع ولادته ، والعقيقة لاتُعاد مرة ثانية ، فيُحمل ذلك على أن الذي فعله صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله تعالى إياه رحمة للعالمين وتشريع
لأمته ، ثم رأيت إمام القراء الحافظ شمس الدين بن الجزري قال في كتابه المسمى : ( عرف التعريف بالمولد الشريف ) ما نصه : قد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له ما حالك ؟ فقال في النار ، إلا أنه يُخفف عني كل ليلة اثنين ، وأمص من بين أصبعي ماء بقدر هذا – وأشار لرأس أصبعه – وأن ذلك باعتاقي لثويبة عندما بشرتني
بولادة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبارضاعها له { الحديث موجود في البخاري في كتاب النكاح ، ورواه عروة بن الزبير مرسلاً } فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم به ، فما حال المسلم الموحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يُسرّ بمولده ، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم ؟ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يُدخله بفضله جنات النعيم ، وقال الحافظ شمس الدين بن ناصر الدمشقي في كتابه المسمى : ( مورد الصادي في مولد الهادي ) : قد صحّ أن أبا لهب يُخفف عنه عذاب النار في مثل يوم الإثنين لإعتاقه ثويبة سروراً بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أنشد :
إذا كان هذا كافراً جاء ذمّه*** وتبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في يوم الإثنين دائماً*** يُخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي طول عمره*** بأحمد مسروراً ومات موحدا .