لغة الخطاب النقابي تتغير: إعداد عبد العزيز قريش
2007/04/30
يتأثث الخطاب اللغوي النقابي بمفاهيم ومصطلحات من الممارسة اليومية للفعل النقابي، ذلك أن لغة الواقع هي التي تشكل هذا الخطاب بما له وما عليه، لكنه في السنوات الأخيرة أخذ يعيش أزمة خانقة لفقدانه بعض مصطلحاته الرئيسة، نتيجة أزمة الممارسة التي يعيشها؛ حيث راكم في سنوات عقد التسعينات من القرن الماضي بعض الإخفاقات والسلبيات في أدائه بل وفي قيمه وأخلاقياته، التي بناها جيل الرواد المؤسسين، الذين خاضوا المعارك النقابية الكبرى، والتي أدخلت أغلبيتهم السجون والمنفى والاحتجاز القسري بل فقدوا وظائفهم وأرزاقهم، ومنهم من فقد حياته. ومازالت ذاكرة الفعل النقابي تحفظ أسماءهم بمداد من الفخر والاعتزاز والتقدير والشكر والدعاء لهم بالرحمة والصحة والعافية.
وتجلى ذلك التراكم السلبي في بداية القرن الواحد والعشرين في ملفات كبرى، وفي صراعات القيادات على المناصب عبر المناورات والمناورات المضادة بدل الاحتكام إلى قوانين المؤسسة بطرق ديمقراطية وشفافة اعتمادا على الكفاءة ومصداقية النضال وخدمة الصالح العام للقواعد. فوجدنا الانتقادات تقابل بالطرد واللامبالاة والضغط وفبركة القضايا ضد المنتقدين والإصلاحيين الجدد. مما أجج الاحتقان ودفع ببعض المناضلين إلى الانشقاق أو العزوف عن العمل النقابي. والانشقاق أدى إلى التفكير في إيجاد البدائل لإصلاح الوضع النقابي. وقد جاء كل ذلك على حساب قيمة ومصداقية العمل النقابي وعلى فكره النظري، بما طرح خطابه على المراجعة للمستجدات التي حصلت في الميدان.
لقد شعر العديد من القواعد بالحيف الذي طال ملفاتهم وقضاياهم عند التعاطي معها نقابيا بل وجدوا أنفسهم على الهامش رغم أنهم يشكلون الأغلبية للقاعدة النقابية، فضلا على أن النضال بدءا من التأطير إلى التعبئة إلى المشاركة يقع على عاتقهم مقابل استحواذ القمة وهي الفئة القليلة على اتخاذ القرارات والتفاوض باسم القاعدة دون استحضار القاعدة في حوارهم بل حضور قضاياهم وملفاتهم الخاصة بهم وبفئاتهم. ومنه وقع الانفصام بين القمة والقاعدة، وبالتالي سقط إدعاء تمثيل القاعدة من القاموس اللغوي النقابي. وتحول إلى خطاب فئوي منحصر في من يدبر شؤون المؤسسة النقابية المشخصنة في الزعيم الأوحد الأبدي السرمدي، الذي يعرف كل شيء، وصاحب التجربة والخبرة والحنكة في التحاور وتسيير النقابة! بدل الأخذ بالقرار الجماعي الذي يستحضر حيثيات الملفات في شموليتها وفي ترابطاتها. وبذلك وجدنا النقابات تفتي في قضايا بما لا يخدم قواعدها لانسياقها لمظلاتها السياسية، واتخاذها أبواق دعاية لسياسة تلك المظلات. وغدت في عيون القواعد أدرعا للمظلات السياسية تضرب بها القواعد حينما تنتقدها. وأصبح خطابها تبريريا ودعائيا وإشهاريا لا يلمس فيه المناضل أية مصداقية فضلا عن عدم جدواه في حل المشاكل والقضايا المعقدة.
وفي المجال التعليمي وجد المفتشون أنفسهم يناضلون من خلال جمعياتهم المهنية التي لم تمكنهم من حقوقهم بل اصطفت بلغة الانتماء السياسي والإيديولوجي ضدا على ملفهم المطلبي بجانب الوزارة بدعوى التنظيم وأي تنظيم؟ تنظيم يكرس التبعية للفكر الإداري دون الاستقلالية الوظيفية ويسكت عن سحب الاختصاصات ... ووجد أساتذة التعليم الإعدادي أنفسهم مجمدين في الترقية وفي السلم العاشر فضلا عن مشاكل سد الأبواب في وجوههم ... ووجد أساتذة التعليم الابتدائي أنفسهم مجمدين في السلم العاشر وفي سلاليم دنيا موضوعة في الانقراض، الخروج منها لن يتم إلا بعد التقاعد المهني أو الرباني، فضلا عن زلات العمل النقابي في التفريط بالمكتسبات من قبيل الترقية بالشهادة والكفاءة المهنية وعدم تساوي السلاليم بين الابتدائي والإعدادي والثانوي لوجود رتب زائدة في الابتدائي دون الثانوي، وثغرات النظام الأساسي الأخرى، فضلا ظروف العمل وغيره من المعطيات الواقعية المعيشة. كل هذا أدى إلى التفكير جديا إلى تغيير هذا الواقع النقابي ومن ثم تغيير لغة خطابه، فظهر خطاب الاستقلالية بدل التبعية، والمأسسة بدل الشخصنة، والتداول على المناصب التدبيرية بل التوطين، والكفاءة بدل الأقدمية، والصالح العام بدل الصالح الخاص، حركية الفعل النقابي بدل سكونيته ... واستدعى كل ذلك التشطيب على بعض المصطلحات التي سادت لعقود الخطاب النقابي، من قبيل الشمولية الشاملة للقطيع بمعناها الكمي لا النوعي، وكذلك المركزيات الأكثر تمثيلية ... حيث أصبحت لغة خارجة عن سياق الواقع بل مضللة للواقع وللفكر النقابي. فمثلا إذا ذهبنا إلى اللجان الثنائية الخاصة بإطار التفتيش وجدنا " نقابة مفتشي التعليم المستقلة " هي الأكثر تمثيلية لفئتها من المركزيات النقابية. وهذا الخطاب سينحصر جدا في الاستحقاقات النقابية المقبلة، عندما يحين وقت تجديد اللجان الثنائية، لأن الواقع المعيش يفيد إرهاصات أولية مؤشرة على أن النقابة المستقلة للتعليم الابتدائي ستستحوذ على أصوات قوادر التعليم الابتدائي، وأن الهيأة المستقلة للتعليم الإعدادي ستستحوذ على أصوات قوادر التعليم الإعدادي، وأن نقابة مفتشي التعليم ستستحوذ على أصوات هيأة التفتيش. مما ستتكسر معه لغة المركزيات الأكثر تمثيلية، وسيجد القاموس اللغوي النقابي نفسه مدفوعا إلى مراجعة لغته ومصطلحاته ليتساوق مع الوضع الجديد للفعل النقابي. وعلى ما يظهر، فإن قوادر التعليم الثانوي ستجد نفسها موزعة على النقابات المتحزبة مما سيشتت أصواتها، وبالتالي ستضطر هي الأخرى إلى إيجاد بديل نقابي مستقل يجمع صوتها حول إطارها.
هذه القراءة البسيطة للواقع النقابي تفيد أن النقابات التقليدية والعتيقة ارتكبت أخطاء قاتلة في أدائها النقابي تجاه قواعدها، مما دفع بالقواعد إلى إيجاد بدائل مؤسساتية لإعادة الاعتبار للعمل النقابي ولمصداقيته، التي ضاعت بفعل السياسة والإيديولوجية، وعرت المشهد النقابي من كل أوراقه وأظهرت هشاشته أمام الجميع. وأجد بعض النقابات التقليدية والعتيقة مازالت تعاند وتنكر هذا الواقع الذي نعيشه في التعليم، والذي يحتضن وفق الرسميات 46 نقابة تعليمية!. فكيف سيكون المشهد إذا ما بقي النقد الذاتي بعيدا عن مؤسساتنا النقابية، وما بقيت نقاباتنا تقول لمظلاتها السياسية " العام زين "!؟.
إن هذا الحديث لا يقف ضد أحد بقدر ما يوقظ الهواجس الداخلية لتستفيق من سباتها العميق وتتجه نحو الحفاظ على البناء كما أسسه المناضلون الأولون بل تمتينه وزيادة صلابته بدل تحطيمه. ونحن نعلن قراءتنا لهذا المشهد نؤكد أن المؤسسة النقابية التي تعتمد المأسسة في ممارستها والكفاءة والجدية والمصلحة العامة والديمقراطية والشفافية والاستقلالية عن المظلات السياسية والدفاع عن جميع منخرطيها بمختلف أطرهم وتخصصاتهم هي الجديرة بالانتماء والتبني والاحتضان من القواعد. ولا صوت يعلو فوق صوت القواعد، وصوتي جزء من صوت القواعد.
"الرأي / خاص"