-«ما هذه الزيارة الليلية ؟»
-«وهل تتزاور الخفافيش إلا في الظلام؟»
-«لم أعد كذلك... ألم يصلك الخبر بعد ؟ »
-«لذلك أنا هنا... أين يمكننا الجلوس للتحدث ؟ »
أغلق مصطفى باب فيلته الضخمة الذي يكاد يشغل نصف الحائط ,أشار لشريكه سابقا بالتقدم نحو الصالون الصغير المنفتح على البهو الواسع في الطابق السفلي .أوجس مصطفى خيفة من زيارة أحمد ....فكل لقاءاتهما أثناء العمل تتم في الخارج :مقاهي ,مراقص,أزقة ,وفي بعض الأحيان مناطق صحراوية أو جبلية نائية .....و في أحيان كثيرة في قصر الرئيس ......فكيف يزوره الآن في سكنه الشخصي و هو يعلم أنه قدم استقالته منذ عشرة أيام ؟.
قلق مصطفى انعكس على جلسته , فبالكاد احتل حيزا صغيرا من الكنبة وقد وضع يديه بين ركبتيه وثنى ساقيه تحت الكنبة الفاخرة ...تأمل زائره الذي اتكأ في ارتياح , و قد مد ذراعيه على مسند الكنبة يمينا و يسارا , واضعا رجلا فوق الأخرى وشبح ابتسامة يتراقص على شفتيه كما داخل عينيه .
يصغر أحمد مصطفى بثمان سنوات على الأقل ,لكنه لا يقل عنه ذكاء ...قوامه الرياضي المتناسق جعله يتفوق في كل التداريب الميدانية و تركيزه الشديد و اهتمامه,أثرا إيجابا في قدراته كقناص محترف .بالاضافة الى خبرته بكل أنواع الاسلحة و استعمالاتها ....اختاره مصطفى من بين ستة مرشحين عرضهم عليه رئيس مخابرات الدولة.
أحمد أيضا كان يتأمل مضيفه في هدوء و ابتسام, فرغم سنه الذي تجاوز الأربعين بسبع سنوات, إلا أنه حافظ على جسد رياضي رفيع و خفة فريدة يحسده عليها.لا ينكر أحمد أنه استفاد الكثير أثناء العمل معه , و لكن الفرق بينها واضح و جلي كشمس صيف وقت الظهيرة . فمصطفى تغلبه عواطفه و يناقش أوامر الرئيس في كثير من الأحيان ...بينما هو لا يتردد في التنفيذ المباشر أبدا.
كانت ملامح مصطفى تطرح سؤالا, أجاب عنه أحمد بضحك ساخر اهتز له جسده, أتبعه بقوله:
-«هل حقا أنت من رصدناه في المظاهرة قبل أمس, تندد بهجوم إسرائيل على غزة ؟ »
-«وهل تخطئ المخابرات في الرصد ؟»
-«لا اصدق.......! تنزل من قمة جبلك لتختلط بالرعاع و تصرخ في الشوارع كالأحمق؟»
-«تقصد انتبهت لحالي المرير ....و انضممت لصفوف العقلاء.... »
-«يبدو أن نفسيتك متدهورة جدا ! ما الذي حدث ...؟.يمكنك الوثوق بي ...تعلم ذلك .»
نظر مصطفى بإمعان في عيني زميله البراقتين ...كل ما يعلمه أنه لا يثق أبدا بأي احد ....أبدا .....فهو لا يزال لا يصدق أن زيارة أحمد فقط من أجل التحدث......تمنى مصطفى لو أنه يستطيع أن يضم أحمد إلى صفه فبادره بالسؤال :
-«ما رأيك في أحداث غزة ؟»
استغرب أحمد السؤال ,عقد ذراعيه على صدره و قد ارتسمت ملامح الجدية على قسمات وجهه الصخري و أجاب في تحفظ:
-«تعلم أن النظام الدولي لا يترك لنا مجالا لنكون أراء ...فنحن تابعون لأمريكا و مصالح دولتنا رهينة بهذه التبعية .»
-«لا تحدثني في الرسميات ...أريد أن أعرف موقفك أنت.... كانسان, من المشاهد التي نراها يوميا ....كل ساعة على القنوات الإخبارية.»
كانت حيرة أحمد ممزوجة بسخرية و عدم تصديق :
-«هل تقصد أنك تأثرت بتلك المشاهد وتبت؟»
فغر مصطفى فمه مندهشا , لمعت عيناه و تراقصت فرحة خفية في داخلهما ....ترددت كلمة : تبت , مرارا و تكرارا و في سرعة البرق في ذاكرته و تنهد في ارتياح ....منذ عدة أيام و هو يتساءل عن هذا الشعور الذي يتنامى في داخله ...يعذبه و يجعله يحس بالاحتقار و الازدراء لنفسه....منذ مدة ومشاهد جرائمه الدموية تتوالى أمام أنظاره....تؤرق لياليه... تعذب ضميره .....إذن فهي التوبة....لقد أحسن أحمد تشخيص حاله و حدد في كلمة واحدة أسباب تغيره و عذابه ...لقد تاب ...ندم ...تألم ... حاسب ...و عاقب نفسه طيلة عشرين يوما, بلياليها و نهاراتها ....تذكر الليلة التي بكى فيها كما تبكي الأرملة زوجها, و تمنى لحظتها لو ينعزل عن العالم, يتفرغ للصلاة و الاستغفار و لاشيء غيرهما.....و لكنه اعتبر ذلك غير كاف للتكفير عن كبائره, اعتبر الانعزال و التطرف أنانية مطلقة ....فكما بذل خمسة عشر سنة من حياته للتقتيل و التنكيل بالمواطنين و الأبرياء, تلبية لرغبات الرئيس و تخفيا بجملة :الحفاظ على أمن الدولة ....فآن له الأوان الآن أن يسخر قدراته و خبراته لخدمة الخير...و لن يجد ساحة أنسب من غزة ....جنبا لجنب مع المقاومة ...عله يكفر عن بعض فظائعه, أو يموت شهيدا بتوبة صادقة .
و كأن أحمد يقرأ أفكاره, باغته باستفساره في استهجان:
-«هل حقا رجوت الرئيس ليسهل دخولك إلى غزة ؟»
يبدو أن أحمد, كان له حوار مباشر مع الرئيس, قبل أن يقوم بزيارته.عقد مصطفى ما بين حاجبيه في تحد ,اكتفى بالصمت كأحسن جواب ...واصل على إثره أحمد سخريته:
-«لقد بالغت في استغلال معاملة فخامته الطيبة لك...ما هذا الجنون ...؟.لم أعهدك غبيا هكذا ....؟هل صدقت لحظة أنه يمكن أن يوافق على طلبك ؟»
-«هو الوحيد الذي يستطيع إدخالي غزة ....على الأقل في معارفي ...»
-«يستطيع إدخالك إسرائيل حتى ....و لكن يجب أن يرغب في ذلك.»
صمت أحمد ونظر حوله.....جال ببصره في أرجاء الطابق السفلي ...أمعن النظر في الأثاث الفاخر ...و أنهى طوافه بتركيز بصره في عيني جليسه و قال في هدوء:
-«هل تستطيع التخلي عن هذا النعيم ؟»
-«جحيم الماديات... أتخلى عنه بكل سهولة.»
-«و مكانتك عند الرئيس ... ؟و ما يخصك به من معاملة جيدة ؟»
-«أية معاملة ؟!...إننا كالدمى بين يديه : مصطفى ...اقتل فلانا .....دفنته سيدي ....مصطفى احرق منزل فلان ....الزوجة و الأبناء لا يعرفون شيئا سيدي ...قلت :احرق.....نثرت رمادهم مع الرياح سيدي....مصطفى اغرق فلانا ..أكلته الأسماك سيدي ....تركت الصغيرة يا مصطفى .....عمرها سنتان فقط سيدي ....لا تناقشني ....نعم سيدي ... ....نعم سيدي..... ....نعم سيدي..... ....نعم سيدي.....»
قاطع أحمد هياج زميله :
-«انك تنعم بحياة اجتماعية ,لا ينال ربعها وزراء الدولة ...»
-«ما رأيت وضعا أسوأ من وضعي ....ألا ترى حياتي مخربة ...؟ أين دفء الأسرة ....؟ أين رحابة العائلة ....؟ أين تجمعات الأصدقاء ....؟ أين حرية اتخاذ قراراتي بنفسي .....؟»
-«إنها حياة الخفاش ...انظر إلى ايجابياتها....»
-«استمتع بها لوحدك...»
-«حالك ميئوس منه ....بالمناسبة هل تعلم زوجتك و ابناك خبر استقالتك ؟»
ابناه.....حسن وسعيد....يعز عليه ما آل إليه حالهما ....في غيابه الدائم ....أفسدت أمهما تربيتهما ...أغدقت عليهما المال بدون حدود و أهملت الحزم معهما....عادت به ذاكرته إلى أيام غير بعيدة ........
-«آلو ...من يتحدث ؟»
كان مصطفى يسمع صوت ابنه على الهاتف و كأنه يصدر من قرار عميق....و فعلا فانه يتصل بلندن حيث يكمل سعيد دراسته.
-«انه أنا ... والدك....»
-«أهلا أبى هل من جديد.....؟»
-«لا جديد بني.... أردت الاطمئنان عليك فقط....كيف حالك مع الدراسة ؟»
-«بخير ...الامتحانات على الأبواب ... أمي تتأخر دائما في إرسال النقود....»
كانت أصوات موسيقى صاخبة تصك مسامع الأب, ممزوجة بكثير من الصخب و الهرج.
-«انك في مرقص يا سعيد... لا تكذب علي....»
-«لا يا أبي ...أأكد لك ....برفقتي بعض الأصدقاء و نحن ندرس على أنغام الموسيقى ....ألم تسمع بآخر بحث قام به علماء التربية يؤكدون منافع الموسيقى الصاخبة على.....»
قاطعه مصطفى و قد تعبت مسامعه من هراء ابنه.
-«ألم تسمع ,أنت, بشيء اسمه غزة ؟»
-«غزة ....أي غزة ؟»
-«ألم تصادف قناة إخبارية ما, و أنت تصول وتجول عبر القنوات ؟»
-«آه يا أبي... الأخبار ...تعلم أني لا أحب الأخبار.... «»
-«تصبح على خير بني.»
-«لم تخبرني ماهي غزة ؟»
قطع الهاتف حانقا و اتصل بزوجته بباريس مع ابنه حسن و......
أعاده سؤال أحمد إلى واقعه:
-«ما موقف زوجتك ؟»
-«ليس لها أن يكون لها موقف....»
استغرب أحمد و لكنه لم يلح...هب واقفا و عدل ياقة معطفه ...تحسس حزامه في حركة سريعة , لم تخف على مصطفى ,استدار حول الكنبة و اتكأ على مسندها بمرفقيه و قال في برودة :
-«كفى خزعبلات ....لنكشف أوراقنا و ننهي هذا الحوار السخيف...»
-«عن أية خزعبلات تتحدث ؟»
-«توبتك...رغبتك في ال****...أليست هذه تغطيه واهية و غبية لأغراض في نفسك تتستر عليها ؟»
ابتسم مصطفى ...فقد بدأ أحمد يكشف أوراقه فعلا...سأله بنفس البرودة:
-«عن ماذا تعتقدني أتستر ....؟»
-«استقلت... لأنك وجدت عرضا أحسن... من طرف أقوى. ليس لأنك تبت....أما رغبتك في الذهاب إلى غزة فليس لل**** أبدا ....ما عهدناك مضحيا...إنما لتنفذ مهامك الجديدة ....لنقل مثلا: إن الموساد أغرتك بعرض, لم يتح لك مجالا للاعتذار ...و ذهابك لغزة عن طريقنا سيسهل مأموريتك هناك....»
-«و كيف تعلم الموساد بوجودي ؟»
تحيتي لنفسك الأدبي العميق
وتحيتي للمخابرات على قصتك
إنها فعلا مخابرات مغربية، بطرقها وأساليبها المعهودة
ننتظر الجزء اللاحق
ودمت بكل التألق المعهود فيك
الحرية