يبدو أن البسطاء من الناس يفهمون في السياسة أكثر من رجال السياسة، تماما كما يفقه العشاب اليوم أكثر من الطبيب الذي يكتفي بوضع لافتات أمام عيادته مكتوب عليها دبلومات من جامعات و مستشفيات أجنبية لمجرد أنه زارها لشهر أو شهرين. فعندما زرت قريتي هذا الصيف وجدت أن تحليلات شيوخ القبيلة و تعليقاتهم التي يتبادلونها بعد صلاة العشاء حول ما يدور في لبنان و الشرق الأوسط، وجدتها، أكثر أهمية من ما تنطق به بعض الببغاوات التي تطل علينا في شاشات التلفاز من صحفيين وممن يصفون أنفسهم بخبراء عسكريين و محللين سياسيين.جدي الملقب بصفتين: "الشوط" و تعني العاصفة نظرا لخطواته الصغيرة و السريعة التي تجعله يختفي بسرعة في الأفق، و "الوقر" لأنه دائما يدعو إلى الأطفال إلى "التيقار" و الإحترام، جدي هذا دعا العالم إلى الوقر أو العاصفة من خلال نظريتين:ـ إما أن تحترم الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا حق الدول (خاصة العربية) في التسلح و تسيير شؤونها الداخلية أو تتحد هذه الدول المضطهدة في أمنها و استقرارها ضد بوش و بلير. وفي حال ما فشلت هذه الدول في التوحد تأتي النظرية الثانية كحل بديل:ـ إما ان يمثثل الحكام العرب لأراء و أحاسيس شعوبهم أو تنتفض "الجماهير" كالعاصفة ضد هاته الأنظمة.أما "أمزيان" الذي لا يمر يوم دون أن يكون بطل حكاية مضحكة، فهو معجب بحزب الله و بلائه الحسن في لبنان. أمزيان هذا هاجمته الدبابير الصفراء اللاسعة في الحقول، بعدما اعتدى عليها أطفال أشقياء وخربوا مخابئها الطينية، فقرصته في كل أنحاء جسمه حتى سقط في المياه الضحلة لينقذ نفسه. في المساء سيلتف نفس الأطفال حول وجهه المنتفخ ليضحكوا على حاله فقال لهم بابتسامة لا تفارقه:"لقد هاجمتني فجأة من كل صوب مثل حزب الله" !!أما رجل آخر في القرية معروف بصمته وانتقاده لكل شيء، فقد أكد أن العراق و أفغانستان ولبنان و سوريا ثم إيران ستلقيان نفس المصير. و أضاف أن الرؤساء و الوزراء العرب وبعض زعماء الحركات كثيرو الكلام و يتقنون فن الخطابة، لكنهم في الميدان يقودون شعوبهم إلى معارك أكبر منهم ثم يسقطون أو يفرون.شاب آخر كل ما قاله أنه يستغرب ويسخرمن شكل التظاهرات المغربية المتضامنة مع الشعب العراقي و الفلسطيني و اللبناني. فالمشاركون يصرخون بقوة : " بالروح بالدم نفديك يا..."، لكن ما إن توجه الكاميرات نحوهم وتقترب من وجوههم حتى تبدأ الابتسامات تظهر بين وجوه الجموع. هل غضبهم و تضامنهم غير صادق؟ أم أننا ألفنا منذ الطفولة في المدرسة أن التقاط أي صورة يسبقه التهيؤ و التعطر ثم الابتسام ؟ ؟ !!هذه التصريحات لم تكن تحدث تحت أضواء الكاميرات ووراء الميكروفونات، ولم يكن أصحابها يرتدون ربطات عنق ولا يتصنعون التعب بشعر منفوش. ليسوا من أولئك الذين يرددون تلك الجملة المملة: " حزب الله ليس جيشا نظاميا، فهو يقاتل بتكتيك حرب العصابات !!". كلامهم كان أحاديث بسيطة في الحقول أو حول مائدة الطعام. كلامهم كان صادقا و آراءهم كانت صائبة و عميقة الى حد بعيد.لقد كشفت الحرب الأخيرة التي دارت في لبنان عورة الكثيرين لأن مؤخرة القرد لا تظهر إلا عندما يصعد الشجرة. وفضل كبير يعود لعدسات المصورين التي نقلت أحشاء الأطفال و أطرافهم الصغيرة التي لا تشبه إطلاقا تلك التي نراها في إشهارات الحفاظات. دماء و أشلاء في كل مكان، ورجال أقوياء أشداء يبكون أبناءهم.السهرات و المهرجانات لا تهتم بما يحدث في الشرق الأوسط من مجازر و لا في الغرب من تقدم : "شرق ولا غرب وحنا مالنا". وعندما تفشل هذه المهرجانات مرتين: مرة في تجاهلها للمنددين بالتوقيت اللامناسب، ومرة ثانية في مداخيلها..فإن منظميها، كما حدث مؤخرا، يسارعون إلى عقد ندوة صحفية يردون فيها على اتهامات معارضيهم لهم باللاقومية، بل ويضيفون بدون خجل أن الوطنية والعروبة هما بالذات ما دفعهم إلى تنظيم المهرجان الذي ستخصص كل مداخيله كلها للبنان و فلسطين...و أية مداخيل!! وعندما تتأمل الأمر بتمعن، لا تجد أي فرق بينه وبين نكتة أولئك الرجلين اللذين كانا يتمشيان ليلا، فاعترض لصوص مسلحون طريقهم. وقبل أن يفتشوهم قال الأول للثاني ببرودة دم: " هاك أخويا هديك عشرالاف اللي كاتسالني هادي واحد العامين، راه الأمانة أمانة" !! الفرق الوحيد أن الأمانة في الحالة الأولى معلبة في كارطونة، وماهي سوى الشعب الذي "يبرق ولا يقشع".الشفوي الذي يخيف الطلبة يعشقه السياسيون مثل الطعام ويتقنونه كالمشي. أقترح على الطلبة الذين يحضرون الإجازة (التي لن يحصلوا عليها إذا ما أخذوا بالنصيحة) في بعض التخصصات ذات الصلة بالموضوع أن يدرسوا بلغة الأرقام و النسب المئوية مدى صحة ما يصرح به المسؤولون. بحث كهذا سيجعلنا نكتشف أن الوزراء يشبهون التلاميذ الكسالى الذين لا يعترفون أبدا بأن النوم هو سبب تغيبهم و ليس المرض، فكل إجابات الوزراء تبدأ ب: " نحن بصدد" ثم تليه تلك الكلمات الخشبية من قبيل:"صحيح أنه...لكن..."، " استراتيجية"، مخطط"، "نهوض"، وفي الختام يرمي الكرة إلى مرمى الوزير الذي سيشغل منصبه: "...وذلك في أفق 2015!! " .الشفوي أو "الهضري" بلغة الشارع نعمة يستغلها البعض لفك المشاكل التي يتورط فيها، و البعض الآخر للتسلق الإعلامي ( محاكمة رئيس الدفاع الإسرائيلي بالمغرب(...))، والبعض الآخر يدخل بها التاريخ من نوافذه الكثيرة كما حدث إبان الحرب العراقية. كلكم تتذكرون الصحاف الذي أبهر العالم بجرأته وبرودة دمه التي لا يمكن إلا أن نحترمها. هذا الرجل طالبت به القنوات التلفزية الأمريكية كمنشط قبل أن يطالب به بوش، لكن قبل أن يحصل عليه أي منهما حصلنا نحن على نكتة، وهي كل ماترك لنا نحن العرب:عندما بلغت الحرب العراقية الأمريكية أوجها، اختبأ صدام في أحد الأنفاق، فيما كان الصحاف يصرح للصحافة بثقة: " هم الآن محاصرون في المطار...لقد حاصرنا " العلوج "...مفاجآت أخرى حضرناها وهزيمة أمريكا مسألة وقت فقط !!!".بعد أيام سيتشجع صدام و يخرج من غاره لاستطلاع الأمر فسأل الصحاف.ـ ماهي آخر الأخبار؟أشار له الصحاف بشارة النصر بإصبعيه. فقال صدام مبتسما:ـ هل انتصرنا؟ـ لا بقيت أنا و أنت !!
بقلم هشام المنصوري