عندما نزلت من سيارة الاجرة نفضت عني غبار البادية العالق بجزمتي ومعطفي , ثم مضيت اجر اقدامي على الرصيف.كان المساء قد بدأ يحط رحاله والجو بارد وكان اليوم قد مر رتيبا , وروتين العمل اليومي جعله اكثر رتابة. شعرت اكثر من مرة بانقباض قاتل داخل القسم , وانا القي ببصري من النافذة ملء الاراضي الجرداء الممتدة نحو الافق, واصابني شيء من التقزز من الصخور والحجارة المتراكمة على غير تناسق.. لكنني كنت احاول الضغط على هذه المشاعر بالانهماك في القاء الدروس على التلاميذ الذين كان اكثرهم ينتعل احذية بلاستيكية تطلق روائح كريهة, ويرتدون ثيابا بالية, تتناثر على طولها بقع دكنة .. مررا اشعر بعطف كبير عليهم واتأسف لطفولتهم التي تصرف بين روث البهائم وغبار المكارط ....
كانت جلبة الحركة تملأ الشارع والسيارات تنساب على الطريق , وضوء المصابيح العمومية ينثر احزمة واهنة من الاشعة ,وكانت كراسي المقاهي تحتضن عشرات الرواد الغارقين في عوالمهم الخاصة ., والمارة يتدفقون في مختلف الاتجاهات .
سرت متخاذلا , تتقارع الافكار في رأسي وتتلاطم دون هوادة كعادتي كل الامساء السابقة, وكانت الشمس قد غابت تماما ولم تبق منها الابعض الحمرة التي امتزجت بظلام الليل الزاحف, وكانت نفسي تضطرب بخليط ناشز من الاحاسيس السلبية..فكرت فجأة:الحياة لعبة غريبة, وفوضى مستمرة ينبغي ادارة الظهر لها من اجل العيش , اما مواجهتها فطريق مفتوح نحو السراب , لاننا نحن اصلا لم نوجد لنفهم معناها بل نعيشها دون معرفة, ونظل نسير على غير هدي حتى النهاية..
افقت من افكاري لما وجدتني امام البيت , ادخلت المفتاح في قفل الباب ثم ضغطت على المزلاج ودلفت داخلا., كان البيت هادئا وجاءتي صوت زوجتي من المطبخ وهي تدندن بلحن شعبي شائع فذهبت اليها , ووجدتها منصرفة الى اعداد طعام العشاء , فطبعت على خدها قبلة وسألتها:
_ هل بسمة نائمة
فابتسمت وردت:
-لقد انتظرت عودتك طويلا ..لكنك النوم قد سبقك
وذهبت الى بسمة في مخدعها فالفيتها غارقة في سبات النوم وقد بدا وجهها الطفولي الحالم ساكنا , فلثمت جبينها المشرق وجلست قربهابرهة , ثم غاذرتهاالى غرفة النوم فخلعت ثيابي , وارتديت بيجامتي ثم سحبت كتابا من خزانتتي واتكئت على السريرمستندا الى حافته, وغرقت بين الصفحات..
مر الوقت رتيبا ., وفجأة التقطت اذناي صوت بسمة وهي تردد:
- بابا بابا هل عدت..؟؟؟؟
فالقيت بالكتاب جانبا واستويت جالسا , ثم فتحت لها ذراعي واخدتها في حضني, والفرح يغمر قلبي قلت لها:
-لقد افتقدتك يا طفلتي الحبيبة كثيرا
- وانا انتظرتك طويلا لكنك تأخرت
وجاءت زوجتي فانضمت الينا وجلسنا نتجاذب اطراف الحديث..قالت:
-فعلا اليوم تأخرت كثيرا
فقلت:
-كان ذلك بسبب وسائل النقل ..تصوري اننا كنا اكثر من عشرة اشخاص داخل سيارة اجرة متهالكة...انها حقا المعاناة اليومية مع وسائل النقل
_ قطعة الخبز صارت عسيرة في هذا الوقت ولا بد ان نعاني يا زوجي الحبيب كي نعيش..
ضحكت وانا اقاطعها:
_معاناتي ايتها العزيزة تذوب وتنتهي بمجرد ان اراك انت وبسمة فانتما جنتي التي انسى فيها محنتي..
توردت وجنتا زوجتي ومالت برأسها على كتفي وهمست بصو ت دافئ:
_ انك كل شيء بالنسبة لنا ابقاك اله يدا رحيمة بنا....
محمد محضار اكتوبر 1987
ملحوظة:هذا النص كتبته منذ ازيد من20سنة اي قبل زواجي باربع سنوات نص يتضمن بعضا من معاناتي واحلامي التي تحققت فيما بعد ......
بسم الله الرحمن الرحيم
السلارم عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أخي الكريم محضار هنا جمعت بين بين الحالة الزرية لمجتمع قروي الذي يعاني أطفاله من أقل شيء وهو النظافة.. وبين الطبيعة الجرداء القحطاء وهي رمز دلالي عميق.. وبين معاناة معلم في التنقل بين البيت والعمل.. ومعاناته بسبب وسائل النقل وظروفها التي تبعث في النفوس القلق والاضطراب.. وبين أقوى معاناة التي تتجسد في حق البيت الذي يضيع بسبب التضحية...
قصة تخلف في النفس أسفا وحزنا عميقا...
مودتي وتقديري.
بسم الله الرحمن الرحيم
السلارم عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أخي الكريم محضار هنا جمعت بين بين الحالة الزرية لمجتمع قروي الذي يعاني أطفاله من أقل شيء وهو النظافة.. وبين الطبيعة الجرداء القحطاء وهي رمز دلالي عميق.. وبين معاناة معلم في التنقل بين البيت والعمل.. ومعاناته بسبب وسائل النقل وظروفها التي تبعث في النفوس القلق والاضطراب.. وبين أقوى معاناة التي تتجسد في حق البيت الذي يضيع بسبب التضحية...
قصة تخلف في النفس أسفا وحزنا عميقا...
مودتي وتقديري.
شكرا اخي محمد على تعليقك الهادف وتحليلك المقارب للنص في مختلف ابعاده
كنت قد اتخذت قرارا بعدم قراءة حكايات المعلمين لما كنت أجده فيها من أحداث متكررة .لكن لما كان صاحب النص هو استاذي محضار لم أمتلك نفسي .ورجعت عن قراري ,لأني كنت موقنا أن طرحه سيكون مخالفا للمعتاد .فصدق ظني وتمتعت بنص جميل يحمل في طياته علاجا لكل من أتعبته الحياة .