1- اللغة والسياسة:
ما من قرار سياسي في الدّول الكبرى كالولايات المتحدة إلا ويمرّ في أطوار إنتاجه بأروقة خاصة، منها مختبر الصياغة اللغوية: فقد دأبت الدّوائر الرسمية السياسية والعسكرية و الإعلامية على تحرّي الصياغة اللغوية ووضع المصطلحات المناسبة في مختبرات سرية تختار فيها التسميات التسميات المناسبة للعمليات الدّيبلوماسيّة والعسكرية المزمع تنفيذها داخل البلاد وخارجها، فقد ابتدعت الولايات المتّحدة أسماء لعملياتها العسكرية مثل "عاصفة الصحراء" و"محاربة الإرهاب" و"عملية السلام" و"الحرب الوقائية" و"تطبيق الشرعية الدّوليّة" و"إثبات حسن النّيّة" و"استنفادالمساعي الدّيبلوماسية" و"خارطة الطّريق"... وغيرها من الأسماء المصنوعة في مختبر صناعة الأسماء المناسبة من أجل تنفيذ الخطط على أحسن وجه .
ولمّا استتبّ للولايات المتّحدة أمر التّسميات - وهي تسميات واصطلاحات تدلّ على مقاصد معيّنة خفيّة - واطمأنّت إلى أنّ العالم انتظم في زعمها في سلك عولميّ جديد، سهُل عليها أن تُمِرّ خططها الرّهيبة في صور وأسماء محبّبة، وباتت الدّول تستجيب للمبادرات الجديدة، وتبيَّنَ أنّ منهج صياغة الأسماء في صناعة القرارات منهج جديد استحدث في عالم السياسة والدّيبلوماسية وساعدت عليه الدّراسات اللسانية والاصطلاحيّة الحديثة والعلوم الإنسانية عموما، وعمِل المسؤولون على استثمار الدّراسات الأكاديميّة لصنع القرار وصنع الحدث والتّرويج و الإشهار لأنظمةٍ وسياسات وأشخاص ومفاهيم، وإماتةِ أنظمةٍ وسياسات أخرى وإخفائها... وقد دأب النّاس على الانجذاب لخدع الأسماء وبريقها والاستجابة لزخرفها من دون النظر إلى ما وراءها .
لا ننسى أنّ في البيت الأبيض وفي أكثر المقرّات الرئاسية في العالَم مختبراتٍ لغويةً لصياغة نصوص القرارات السياسية، فلكلّ زعيم دولة كاتب أو كتّاب يصوغون لهم خطبهُم وكلماتِهم التي يُلقونها بحسب الأحوال المُختلفة وبحسبِ نوعيّة المُخاطَبينَ، ونذكُرُ على سبيلِ المثال أن رئيس الولايات المتّحدة الأمريكيّة اتّخذ له ما بين 2001 و 2003 أي في الفترة العصيبة التي شنّت فيها الولايات المتّحدة حربَها على العالَم الإسلاميّ بافتعالِ أسبابٍ وسيناريوهاتٍ مُسوِّغة لفرض العقوبات والملاحقات، كاتبا خاصّاً يكتب خُطَبَه، واسمُه "ديفيد فرام" ، وكثير من هذه الخطب مبنيّ على الكذب والبهتان، ومِن الملاحظين السياسيين في أمريكا مَن ذهب إلى أنّ بوش حصل على هديّة شغل بها العالَم وهي أحداث 11سبتمبر 2001، وكانت نطقة بدء ساخنة، ومنهم مَن أثبت أنّ الرئيس لم يكن يفكّر في ضحايا الحادث الأليم، بل كان يفكّر آنذاك في الربط بين "صدام حسين" وتنظيم القاعدة، لكي يفسح له المجالُ لضرب العراق وأفغانستان وملاحقة كلّ المطلوبين .
هذه هي سياسة الولايات المتّحدة و مَن لفّ لفّها من الدّول في اللّعب بالألفاظ ، حتّى بات المرء يُخيَّل إليه أنّ اللغة التي ابتكرها الإنسان لتكونَ له مصدر خير ونعمة، قد تنقلب إلى نقمة، وذلك لأنه أخرجها من كونها وسيلةً للتّفاهم والتّواصل بين أفراد المجتمع البشري والارتقاء بالعقل الإنساني إلى مستوى عالٍ، إلى كونِها وسيلة للتّضليل والخداع، وإذا جنح إلى الشّرّ أو المكر أو إشعال الفتنة لجأ إلى الألفاظ المناسبة واستعان بها، فلم ينطبق ما يعبّر به من ألفاظ على ما يدور في رأسه من نوايا ومقاصد ، وهذا ما دعا أحدَ اللغويين - وهو تاريلاند - إلى القول إنّ الإنسان إنّما يتكلّم ليُخفِيَ ما يدور في ذهنِه وما تختلج به خواطِرُه (1)
وهنا يعمد السياسيون إلى شحن الألفاظ السياسية والدّيبلوماسية بقدرٍ كبير من المعاني الهامشية، ويستغلّونها أسوأ استغلال في دعاياتهم وفرض آرائهم على جمهور النّاس ؛ فألفاظ السياسة في مختبرات صناعة القرارات ألفاظ فضفاضة وذات بريق وذات دلالة كاذبة لأنها تُحاط بهالة من الدّلالات الجانبية التي تثير انتباه النّاس وتؤثّر في عقولهم وتوجّههم توجيها معيّنا .
أليست الحرب أولها كلام كما قال قديما نصر بن سيّار إنّ "الحرب أوّلها كلام" ، والكلام محيط بالحرب من أوّلها إلى آخرها .
2- الاستعارة والسياسة:
لا ننسى في هذا السياق أنّ هناك فريقا من الباحثين الغربيّين الذين يشتغلون بقضايا الإنسانية في عالم الفكر والسياسة والمعرفة من أمثال نوام شومسكي وجورج لايكوف وميشيل فوكو وجاك ديريدا وبيير بورديو... هؤلاء وغيرهم ينتجون خطابا سياسيا وفكريا ولغويا يكشف خفايا السياسة العالمية ومقاصدها الحقيقية .وتُعدّ كتابات جورج لايكوف(2) في الاستعارات التي تعكس أنساق التّصوّر مثالا قويّا في هذا الباب ؛ حيث بيّن في بعض مقالاته (3) النسق الاستعاري الذي اعتمدته الإدارة الأمريكية لتسويغ حرب العراق واحتلاله . قرأ لايكوف الاستعارات التي ستند إليها خطاب هذه الحرب اعتمادا على خصائص الحكاية الخرافية وشخصياتها من بطل وشرير وضحية وإنقاذ وهزيمة ونصر وأخلاق... وقد كتب لايكوف قائلا إن الاستعارة قد تَقتُل (4) ، وإن الخطابَ الذي دفع العالَم إلى الانخراط في حرب الخليج يمثّل نظرةً استعاريّةً شاملة، هناك نسق من الاستعارات الهائلة وظّفتها الإدارة الأمريكية لتهويل العراق واستحقاقه للغزو والإخضاع...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1) دلالات الألفاظ، د. إبراهيم أنيس، ص:10، مط. الأنجلو المصرية، القاهرة، ط.2 / 1936
(2) انظر الكتاب الذي ألّفه كلّ من جورج لايكوف ومارك جونسون: Metaphors we live by, The university of Chicago Press, 1980 , وهو مترجم إلى العربية: الاستعارات التي نحيا بها، ترجمة: عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، 1996
(3) metaphors and war, in Viet Nam Generation Journal, V.3, N.3, November 1991)
(4) حرب الخليج أو الاستعارات التي تَقتُل، جورج لايكوف، ترجمة عبد المجيد جحفة وعبد الإله سليم، دار توبقال للنّشر، ط.1 ، 2005