لاتَنْسَ يارئِيس الحُكومَة..
صـــلاح بوســريف
لاتَنْسَ يارئِيس الحُكومَة، أنَّ العقْل مثل الجِسْم، لا يقبلان التَّفْويت، أو البَيْع في المَزاد
...
في الوقت الذي تعمل الجهات التي تمسك بملف التَّعليم، على وضع قطار المدرسة على السِّكة، بحثاً عن طريقةٍ لإصلاح أعطابه، ووضعه في خدمة راكِبِيه، من الأجيال التي ما زالتْ لم تعرف متى ستكون لحظة الانطلاق، ولا كَمْ سينتظرون من الوقت للخروج من هذا المأزق الذي هُم فيه، رغم كل أشكال التَّرْمِيم، والتَّرقيع التي جَرَتْ عبر سنواتٍ من الخَلل والعطب المُزْمِنَيْن، يخرج علينا السيد بنكيران، رئيس حزب العدالة والتنمية، ورئيس الحكومة المغربية، لِيَعْزِف على وتَرٍ آخر، طالما سمعناه من غيره، ممن سَعَوْا، دائماً، لتحويل القطار، إلى عربة تَجُرُّها الخيول.
فأن يتكلم السيد بنكيران عن ضرورة تخلُّص الدولة من التعليم، أو تَمَلُّصها منه، وتفويته للقطاع الخاص، فهذا أمرٌ جَلَلٌ وخطير، ويدعو لكثير من الشَّك والرِّيبَة، ولكثير من القلق:
أولاً، لأنَّ الذي يُنادي به، هو ممن أَقْدَموا على اسْتِصْدارا قرارات، كُلُّها تتنافَى مع الاختيارات الشعبية.
وثانياً، كونه، واحداً، ممن يَدَّعُون أنهم جاؤوا لمحاربة الفساد، وما يتعرَّض له المال العام من اسْتِنْزاف، وهَدْرٍ.
وثالثاً، لأنَّ هذا الشخص، ومن يُحيطون به، جاؤوا إلى السلطة، باعتبارهم من أولياء الله الصَّالِحِين، وأنَّ البَرَكَةَ، أوالخير والنَّماء، سيأتي على يدهم.
ورابعاً، لأنَّ هذا الشخص، بالذَّات، هو واحد من أصحاب التعليم الخاص، بمعنى أنَّه يعرف ما يَدِرُّه هذا القطاع من حَلِيبٍ على أصحابه، رغم أنَّ الخَدَمات التي يُقَدِّمونها لا ترقى لمستوى ما يربحونه من ثروات، هي نتيجة لإخفاق وفشل التعليم العام، وهم من ينطبق عليهم المثل المعروف، مصائب قوم، عند قوم فوائدُ.
ليس غريباً أن تَتَوالَى مثل هذه التَّصْريحات، وأن تسعى حكومة العدالة والتنمية، لوضع قطار التعليم في المزاد، براكبيه، من أبناء الشَّعب. فوزير التعليم العالي، يخوض حرباً ضروساً لاختلاق كليات ومعاهد خاصة للطب، ولا يترك مناسبة تفوتُه، دون أن يُذَكِّرَ بضرورة إلغاء مجَّانية التعليم، وأنَّ التعليم عبء على الدولة، مثل الأدب الذي اعتبره خَطَراً على البلاد، ولا يمكن لهذه الدولة المسكينة، المُثْقَلَة بالمشاكل، وبما تَنُوءُ به من جِراح، أن تبقى حاملةً لكل هذا العِبْء، فالمواطن، هو من عليه أن يحمل هذا العبء، ويتحمَّل تبعات انتمائه لوطنٍ، كل الذين حكموه، أو تحمَّلوا فيه مسؤولية تدبير الشأن العام، تخَلَّوا عنه، أي عن هذا المواطن الذي حالما يضع صَوْتَه في الصندوق، لصالح هؤلاء، حتَّى يتنكرون له، وينفضون يدهم منه، لِيُوَلُّوا وُجوهَهُم صوب قِبْلَة الدولة، أو قِبلْة السلطة، وشهوة الحكم، التي تعمي البصَر، كما تعمي البصيرة.
ما الذي فَعَلَتْه حكومة العدالة والتنمية، ومن معها من التَّابِعِين، من أحزاب اليسار، ممن لا صَوْتَ لهم داخل الحكومة، لهذا المواطن الذي هو الحَطَب الذي اسْتَعْمَلُوه ليصلوا للمكان الذي هُم فيه، ويصبحون أصحاب قرار؟ خدَمُوا الدولة، وخَدَموا أصحاب المصالح، وخدموا المُتَنَفِّذين، والفاسِدين، وتجاهلوا مصالح الناس، بل إنَّهُم، كرَّسُوا سلطَتَهُم لاسْتِنْزاف الشَّعْب، ولقهره، بما حدث من زيادات، في ماء وهواء البسطاء من الناس، أو من النَّاخِبين، واتخاذ قراراتٍ، بقدر ما تمسُّ المواطن البسيط، وتقهره في خبزه، وفي عمله، وفي حياته، أيضاً، بقدر ما تخدم الفاسدين، ممن استنزفوا ثروات البلاد، واستعملوا أموال العُمّال، والمُوَظَّفِين، لتوسيع ثرواتهم، واستثمار عرق هؤلاء لأغراضهم الخاصَّة، التي لا تَمُتُّ للوطنية، والافتخار بالانتماء للوطن في شيء.
فحين يغفر بنكيران لِلُّصوص، وناهبي المال العام، ما اقترفوه من سرقاتٍ، فهو يُصِرّ على أن يقهر البُسطاء من الناس، ممن لا صَوْتَ لهم، بما يُصْدِرُه من قراراتٍ، بما فيه التعجيل بقهر الموظَّفِين، والعُمَّال، بتمديد سنّ التقاعُد، وما سيترتَّب عنه من مُضاعفاتٍ، هي تعبير عن فشل برنامجه، الذي كان مجرد ذَرٍّ للرماد في العيون، ومجرَّد كلام لَيْلٍ، كما يُقال.
من سيغفر لك، السيد رئيس الحكومة، كل هذا الشَّطَط الذي تستعمله في إنْهاكِ المواطنين، وفي مُضاعفة بؤسهم ويأسهم؟ لا أحدَ، لأنَّ الدولة، آلة عمياء، تأكل كل من يقف في طريقها، وتعتبر من يدخُل بيتَها، مُجرَّد مُسَنَّنَة، من مُسَنَّنَتِها التي تضمن سيرها ودورانها، وحالما تتآكل، أو تسْتَنْفِذ مُهِمَّتَها، تستبدلها بغيرها، وتُطَوِّحُ بها في الرِيح. هذا هو تاريخ الدولة، منذ خرج الإنسان من معناه البشري، وتحوَّل إلى سلطة لأكل الآخرين وقَهْرِهِم، أو استعبادهم لصالح المُتَنَفِّذِين، وأصحاب المصالح.
فحين، تدَّعِي الدِّينَ، عليك أن تعرفَ، أنَّ الدِّينَ التزام، وهو تعاقُد بين الإنسان وبين ضميره، قبل أن يكون تعاقداً بينَه وبين خالقِه، الذي وَهَبَه هذا الضمير ليكون الضوء الذي يحميه من عَماه.
ومَنْ وَضَعَ اللهُ ودائعَ الناس في يدِه، عليه أن يكون أميناً عليها، ليس بحفظها لصالح من يَسْتَنْفِذُها ويأكُلها، أو يجُورُ عليها، ويحوزُها لنفسه، بل لمن لا مُعِيلَ له، أو لمن أوكَلَها لَكَ، ولمن معك، من الذين يخرجون علينا بخطاباتٍ، لاشيء يخرج منها، غير الجُحود والاستكبار. فأنْ ترفع من قيمة الضرائب المباشرة، وتحرص على اسْتخْلاص أموال الخزينة العامة من جيوب الموظفين، وصغار العُمَّال، دون أن تقدر على المساس بأرباب الشَّركات الكبرى، وأصحاب المصالح، ممن يملكون ما يكفي من أسلحة لمواجهتك، ورَدْعِكَ، فهذا لا يعني سوى أنَّك عاجز عن إدراك ما تفعلُه، علماً أنَّك، لا أنت «رجل دولة»، ولا أنت خبير في شؤون السياسة، ولا في شؤون الاقتصاد، ولا في تدبير الشأن العام، فأنت داعية، ليس أقلّ، وليس لك، لا في عِير السياسة، ولا في نَفِيرها.
في ذِمَّتِك، ملفات جاهزة، وجَدْتَها موضوعةً على مكتبك، دورُك هو تنفيذ ما فيها من أوامر، وهي ليست مقترحات، قابلة للأخذ والرَّدّ، رغم أنَّك، منزوع السلطة في كثير من الأمور التي لا يُسْمَح لك بالاقتراب منها، أو وضع يدك عليها، لأنها تفوقُك، وتتجاوز صلاحياتك، كما تجاوزتْ صلاحيات من كانوا قبلك.
الدُّستور، عَطَّلْتَه، وجعلْتَه حِبْراً على ورقٍ، عِلماً أنَّ الذين كانوا وراء تغيير الدُّستور من الشُّبّان المغاربة، هُم من أتاحوا لك بلوغ السلطة، دون أن يقصدوا. فكم من نافذة من نوافذ الدستور مازالت مُغْلَقَة، مثل بيتٍ هَجَرَهُ سُكَّانُه، أو لا ساكِنَ فيه، لا تدخله الشمس، ولا هواءَ ينفذ إليه.
ولأعودَ معك، لِما بَدَأْتُ به حديثي هذا، أقول لك: إنَّ التعليم والصحة، ليسا قطاعين يمكن تمريرُهُما بسهولة للمُتَنَفِّذين، وغيرهم ممن أكلوا عرق الناس وعَمَلَهُمم، بل إنهما عقل وجسم المواطن، أو كما جاء في المثل، فالعقل السليم، في الجسم السليم. فلماذا أنت، تريد إعطابَنا في أجسامنا وفي عقولنا، وتريد تفويت هذه العقول والأجسام لمن لا يُقِرُّونَ قيمة العقل والجسم في بناء الإنسان، وفي بناء الأمم والشُّعوب. فهذا اسْتِهْتار بكل القيم، وبقيمة القيم، التي هي الإنسان، الذي وضعه الله فوق كل مخلوقاته، وجعله أشرف وأنبل هذه المخلوقات؟ ألهذا الحد اسْتَهْوَتْك السلطة، وشهوة الحكم، لتصير ناطقاً بلسان غيرك، أو «خادماً أَوْفَى»، بما يتجاوز الوفاء، ويفيض عنه؟
كان طه حسين، وهو رجل عِلْم وفكر، وكان رجل دولة، لأنه كان ممثلاً في مجلس الشعب، وكان وزيراً للتعليم، هو من دافع عن مبدأ مجَّانية التعليم، واعتبره مثل الماء والهواء، أي حقّاً طبيعياً، مثل كل الحقوق التي يكتسبها الإنسان بمجرد خروجه للوجود، وهو من أسَّس عدداً من الجامعات، والمدارس، وساهم في وضع المقررات الدراسية، وعمل على النهوض بالتعليم، رغم اعتراضات الماضويين، ممن لم يكونوا راغبين في انطلاق القطار، لأنَّ هذا الرجل الذي لم يكن مُبْصِراً، كان يعرف مكانةَ ودَوْر البصيرة، في قيادة العُميان، الذين رغم النور الذي يَفِدُ على عقولهم، فهم لا يَرَوْن سوى الظلام، أو يعيشون فيه، لأنه يُعَشِّش في عقولهم، وفي رؤيتهم للإنسان والوجود. وهو صاحب كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» الذي، فيه حاول اقتراح خارطة طريقٍ للنهوض بالتعليم في مصر، وربما، في العالم العربي. فهو لم يكن يطلق الكلام على عواهنه، بل إنَّه كان صاحب فكر ونظر، ورجلاً مُسْتَبْصِراً، مهما يكن رأيُك فيه، أنت الذي خَرَجْتَ من جُبَّه حسن البنا، وسيد قطب.
فنهضة أمة من الأمم، لن تحدُث إلاَّ بالاستبصار، وبالقدرة على البناء، والتَّحَلِّي بالعقل، والتَّشاوُر، والاستماع للرأي الآخر، ومراعاة الصَّالح العام، والمُسْتَضْعَفِين من الناس، لا على الهدم، وانتزاع المُكْتَسبات. وهذه النهضة، لن تقوم، ولن تكون، إلاَّ بتكريم الإنسان، وحمايته من الظلم والتَّسَلُّط والقهر، وأعني من ظلم وتسلُّط وقهر الدولة، التي لا حدَّ لجشعها وطَمَعِها، وأنت اليوم، واحد من قطع غيار هذه الآلة الرهيبة، التي هي الدولة، بكل أنيابها، والتي لا مكان فيها للإنسان، أي لجسمه، ولعقله، هذا الجسم، وهذا العقل اللذين وَضَعْتَهُما في المزاد، بما أطْلَقْتَه من رصاص عليهما، رغم كل ما يُقال ويجري، بصدد وضع القطار على السّكة، دون معرفة ساعةِ انطلاقه، ودوران عجلاتِه، التي يبدو أنَّ الصَّدأ أكلها، وأوْشَكَتْ على التلاشي، أو أُصيبت بالتَّلَف والدُّوَار.