مثنى مثنى هكذا صاح بصوته الزمهريري ،يبث لغة التنظيم بين التلاميذ ،تنحى الصغار إلى الصف يدهسون البعض، ليقيموه في أحسن تقويم ،حتى تكُفّ عيناه عن الجحوظ ،وتقلع الشفتان عن "الكشكشة "...نظراتهم البريئة تبحث في الصوت المرعد عن ملمس ،محترسين تماما ،حتى لايسقطون في ما قد يجلب لهم صفعة أو صفعتين تزنان كيلوجرامات ...واقفين بأدب متأبطين محافظهم ،تزن كل واحدة ضعف حاملها ،ومافيها ينطوي كله على فراغ،تحت هالة من التنميقات ،تختزل في عناوين مُلَمّعة باهضة "المندبة كبيرة والميت فار ". يصاحبونها جرا، أو على الأكتاف ،أو محمولة من طرف الأباء أو الأمهات ،وأحيانا يضرب التلاميذ موعدا مع أوليائهم، لجلب ماتبقى من كتب أثناء فترات الاستراحة ...
يدخلون إلى الساحة ،وهم يتلمسون رضى طاقم المؤسسة ،وإن كانت أحيانا تنزلق من بعضهم صيحات مشاغبة ،خلسة من الأعين المراقبة ،تُنِمّّ عن الإحساس بالانعتاق من مقاعد "سطندار" للكبار وللصغار معا رغم اختلاف السن و الأجسام والأحجام ...يركضون ،يتهامسون ،يبتسمون ،وهم لايدرون ماخلفهم من أعباء تطاردهم بالهراوات ،ولاما أمامهم من حُفَر تتقافز ...عيشة راضية في الغياب ...يصطفون حين ينتصب موعد الدرس ،يَلِجون فصولهم ،ينتحلون مقاعدهم ،ينتظرون من الأستاذ والمقررات ما يرممون به أجسامهم ،وعقولهم ،وذائقتهم،ووجدانهم ،ياترى.. هل يملك الأستاذ كل هذه النوازع ؟بأية طريقة ؟بأية صورة ؟بأية وسيلة ؟في أي فضاء ؟وهل في المقررات ما يشبع نهم التلميذ؟....جميعهم يعضون في السبورة /الخشب ،والطبشورة االتربة البيضاء المجمدة ،يغرفون من ضباب الماضي الممتد حتى الجذور ، ماقد يخلق منهم تلاميذ أشد بلادة وغباء ..قسْ على ذلك العدد الضخم مما يجعل الأستاذ في منأى عن ضبطهم ،الأحرى التدريس بأسلوب أفقي/ طريقة حوارية عن طريق المجموعات ،فيُقلَب الوضعُ إلى الطريقة التلقينية ،وهكذا "تعود حليمة إلى عادتها القديمة "،وكل التوجهات التربوية بمستجداتها تُدفَن في تابوت العشوائية وسوء التدبير ... حال الانتهاء من الحصص ،يزوغ التلاميذ من فصولهم تارة بطرق تنظيمية وأخرى العكس ،وتصبح المسألة روتينية ،فيدب التثاؤب إلى التلميذ والأستاذ والدرس نفسه ، الثالوث يتملص من المسؤولية :
-الدروس تصبح مقبرة تطمَر فيها أفكار التلميذ وذكاؤه وحدسه ونشاطه بقرائنها الراسخة .كما تصبح طامة كبرى بالنسبة للأستاذ في غياب التكوين ،ومتاهاتها المتفرعة دون مخرج ،واللعب بالمصطلحات على حساب المحتويات
الأستاذ يركل كل شيء ليبحث في كل شيء عن التقاعد النسبي أو التقاعد الطوعي
التلميذ يدب إليه النفور وتغتال بين يديه كل حلقات الرغبة....وهكذا تصبح المدرسة مصدر أتعاب وخوف ... وقلق
تتعانق الأشكال ،وتتشابك الأنكال، لنخرج جميعا بجملة رنانة "يجب أن نحقق الجودة ".....
سرنا على درب تحقيق الجودة بطرق أخرى نادرة ،قلما نجد مثلها في رقعة أخرى من هذا العالم :دمج تلاميذ نفسِ المستويات ، وتفييض لا "تفويض "الأساتذة وفق خريطة مدرسية تجاوزت في رسوخها وثبوتها تعاليم القرآن الكريم :ألا يقل عدد التلاميذ ،على 34 ،ولو الحجرات فارغة والأطر موجودة، المهم هو احترام هذا البند المقدس ،ولايغيره مغير ،وهكذا يصبح المعلم أمام عرمرم من التلاميذ ،لايستطيع الإلمام حتى بأسمائهم ،،الأحرى ضبطهم ،وإتقان سير الدرس ...
ومع ذلك.. نحن حققنا الجودة ،ولم يبق غير تفعيلها لتعطي أكلها ...
................لما أدرك الآباء أن هوية التعليم العمومي يركب بين المد والجزر صهوة الخراب ،التجويف والنخر يعتملان في الداخل ،هجّروا أبناءهم إلى المؤسسات الخصوصية ،يتقاسمون مبالغها القاسية مع القوت اليومي، لإنقاذ مايمكن إنقاذه ...وباتت المؤسسات العمومية يطن فوق معاقلها الذباب ، وتعشش في أركانها العناكب ،لكن لاخوف فقد جاءت فكرة أخرى أكثر توهجا ،لتفعيل الجودة بصورة أخرى أمتن وأبهى ،وهو عرض هذه المدارس مثل الدجاج للبيع
في سوق عكاظ ..نحن بخير لاحاجة لنا بالفائض ،مادامت في المدن لاتصلح إسطبلات لتربية الأغنام والأبقار ....
قُدمت الشكاوي ،قدمت الاقتراحات ،حددت أسباب التعثرات ،توالت الاحتجاجات حول إعادة النظر في المنهاج ،خاصة مسألة تكثيف التلاميذ والحجرات فارغة ،والأطر متوفرة ،فكان الرد:أن على الأستاذ التضحية ،فَلَه من القدرة مايسعه أن يفعل ،ومن الصبر ماللجمل وأيوب ،ويمكن أن يدرس بمستويين أو أكثر وب40 تلميذا لم لا؟،فهذا مألوف لدينا من زمن بعيد ،ولاداعي لتغييره "فالحاذكة تغزل على عود البورواك"..
أخيرا النقطة المحيرة من حافة ثانية ،وهو طاغوت العولمة الذي يهب بإعصاره المجتاح ،كيف مجابهته بهذه الأسلحة الصدئة ،المشبعة بأتربة الأمس وانزلاقات اليوم،وسوء التخطيط للغد؟
كل الهراطق والمراطق ،والهرج والمرج ذابت كويرات ثلجه في حكاية التعليم "امْشَ مع الواد الواد،وأنا بقيت مع اولاد الجواد"
بقلم مالكة عسال
بتاريخ 4/10/2007
الهوامش :
------------
1- الكشكشة :كلمة عامية مغربية : رمز إلى التوتر الحاد والإزباد والإرغاد
2- المندبة كبيرة والميت فار:جملة بالعامية المغربيبة والمقصود بها
النحيب والبكاء من أجل ميت تافه لاقيمة له وهنا ترميز للتنميقات والبهرجة تنثني على تفاهات .
3-سطندار :كلم غربية المقصود بها نفس المقاييس تصلح للكبير
والصغير .
4- أيوب: نبي الله أيوب عليه السلام
5- فالحاذكة تغزل على عود البورواك":عبارة بالعامية المغربية
الحاذكة تعني :الحذقة الماهرة
عود البورواك :نبات بري له سيقان هشة حين تجف،يستحيل الغزل عليهلأنه سريع الكسر ،والمقصود به هنا العمل ولو لم تتوفر الأدوات والوسائل .
6- امشَ مع الواد الواد،وأنا بقيت مع الجواد":عبارة عامية مغربية نختم
بها عادة الحكاية التي نحكيها للصغار ، أي أن الحكاية حُكِيَت وانتهت وأنا مازلت مع الكرام :وهي رمز لموت أهداف التعليم ...رغم بقائي معكم أيها الكرام
7- الهرطقة والمرطقة والهرج والمرج :رمز إلى كثرة الثرثرة دون فائدة تذكر
كيف تتحقق الجودة في التعليم في دقيقتين دون تخطيط
المواضيع المتشابهه
