بدأت ملامح التقرير التركيبي، الذي سيصدره المجلس الأعلى للتكوين والبحث العلمي، تظهر. ويبدو من خلال المعطيات المتوفرة، أن لجان المجلس وضعت ما اعتبرته أولويات وجب السعي إلى تنزيلها كخطوة أساسية في عملية الإصلاح التربوي. ومن هذه الأولويات ما يتعلق بالتعلمات الأساسية، وجودة التعليم، والحكامة، والإشكالية اللغوية. وهي قضايا سبق للميثاق الوطني، وللمخطط الاستعجالي أن نبه إليها من قبل.
والتردي، واقتراح الحلول الملائمة لتجاوز هذه الوضعية.
ولن تخرج الأفكار الكبرى للتقرير التركيبي عن حدود ما اعتبره المجلس الأعلى مجموعة أولويات وجب تنزيلها لكي تسير وتيرة الإصلاح المنتظر كما خطط لها.
ومن أولى هذه الأولويات، ما سماه تقرير المجلس بضرورة مواصلة الجهود المتعلقة لتعميم التعليم، بما في ذلك التعليم الأولي، وانفتاح المؤسسات التعليمية على كل الأطفال البالغين سن التمدرس، واحتفاظها بكل تلامذتها لأطول مدة ممكنة، وتزويدهم بالمعارف والكفايات الضرورية للحياة، وبقواعد المواطنة والأخلاق الفاضلة، في أجواء سليمة، وفي بيئة بيداغوجية ملائمة ومضيافة تستجيب لانتظارات المجتمع، ولحاجات التنمية المستدامة.
وهي أولوية ظلت حاضرة في جل النقاشات التي توقفت عند محطة التعليم الأولي سواء على عهد المخطط الاستعجالي أو قبله.
لقد أعاد المجلس الأعلى للتعليم والبحث العلمي، خلال إحدى دوراته فتح ملف التعليم الأولي. وسجلت إحدى لجان المجلس، في تداولاتها، ضرورة تحمل الدولة لمسؤولية التدريس الأولي تجاه أبناء المغاربة المتراوحة أعمارهم ما بين 4 و6 سنوات. مبررين ذلك بـضرورة تكافؤ الفرص بين تلاميذ القرى والمدن.
ولم يكن مجلس السيد عزيمان خارج النص وهو ينبه لهذا الأمر. فقد سبق أن خص الميثاق الوطني لتربية والتكوين، قضية التعليم الأولي بالاهتمام حينما تحدث على أن تعميم التعليم الأولي يجب أن ينتهي في 2015. وهو الرهان الذي لم يتحقق بالجودة التي كانت منتظرة.
كما كان المخطط الاستعجالي لإصلاح التعليم، قد أعطى لهذا الشق العناية الكبيرة، وخصص له مشروعا من مشاريع المخطط بالنظر للدور الذي يلعبه هذا التعليم، رغم الكثير من الإكراهات التي تعترضه.
ثاني الخطوات التي تكتسي طابع الأولوية، هو المتعلق بالعمل على الارتقاء بالكفايات المهنية والقدرات التدبيرية للموارد البشرية العاملة بقطاع التربية والتكوين، من خلال إقرار إجبارية التكوين المستمر، ومراجعة نسق التكوين الأساس في كل مستوياته.
وبذلك فقد عاد النقاش مرة أخرى عن مهن التدريس، التي وجب أن يعاد فيها النظر. لذلك يرى الكثيرون أن ما أقدمت عليه وزارة التربية الوطنية منذ عهد الوزير محمد الوفا، الذي فتح أبواب مراكز مهن التربية لكل حاملي شهادة الإجازة، كان خطوة إيجابية. على الرغم من الحديث الذي طفا على السطح مجددا حول إمكانية فتح أبواب هذه المراكز أمام حاملي شهادة الباكالوريا، مع إلزامية التكوين لمدة ثلاث سنوات وليس سنتين فقط. وبهذه الحركة التي يعرفها مجال التكوين يمكن تحقيق هدف الإرتقاء بالكفايات المهنية للمدرسين.
وشكل تحقيق الجودة واحدا من الأولويات التي وجب التعاطي معها في الفعل التعليمي. وهو واحد من المشاريع التي سبق للمخطط الاستعجالي وقبله الميثاق الوطني للتربية والتكوين أن توقف عندها. أما لتحقيق هذا الهدف، فيرى المجلس الأعلى للتعليم والبحث العلمي، ضرورة إعمال آليات المراقبة والمواكبة التربوية. وتقييم تعلمات التلاميذ بكيفية دورية ومنتظمة، قصد المساءلة والمواكبة والتحفيز. وإرساء برنامج للدعم التربوي يحظى باهتمام خاص من قبل الوزارة، ويعهد للخبراء من أجل بلورته وتحديد أهدافه ومختلف عملياته وآليات تنزيله. ويسهر على تنفيذه المفتشون، ويرعونه بالتتبع والمراقبة والتقويم، وتخصص له اعتمادات مهمة لحفز المدرسين على الانخراط في هذا المشروع. لذلك كانت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني قد سارعت إلى منع الساعات الإضافية، ودعت في المقابل إلى إعمالها داخل المؤسسات التعليمية للرفع من المردود العام التلاميذ، وإصلاح الاختلالات التي يتم رصدها تحقيقا للهدف الأكبر وهو الجودة.
غير أن هذه الأهداف لن تعرف طريقها نحو التفعيل إلا بإعطاء الأهمية لمجال الحكامة الجيدة، التي تعاني الكثير من الاختلالات في منظومة التربية والتكوين. وهو ما شكل إحدى أولويات الإصلاح من خلال آليات القيادة والضبط والتقويم، ومنهجيات التدبير الناجع لمختلف الأجهزة المكلفة بالتسيير الإداري والتربوي الحالية، وذلك عبر تحيين ومراجعة الإطار القانوني الموجه لمنظومة التربية والتكوين، وترسيخ المسؤولية وتوضيحها، وإعمال آليات المراقبة والمواكبة، وربط المسؤولية بالمحاسبة.
ولن يفوت تقرير المجلس الأعلى التوقف مليا عند الإشكالية اللغوية التي يعتبر الحسم فيها أولوية الأولويات. وهي الإشكالية المتمثلة في استعمال غير متناسق للغة التدريس في منظومة التربية والتكوين، وأثر ذلك على صعوبة اكتساب المعارف العلمية، والكفايات التجريبية والتطبيقية في الجامعة، نظرا لضعف إلمام التلاميذ باللغة الفرنسية.
وشكل موضوع اللغة واحدا من القضايا الكبرى التي اشتغل عليها المجلس الأعلى للتعليم والبحث العلمي، خصوصا ما يتعلق باللغة الثانية التي وجب الاعتماد عليها.
وهكذا فبعد أن كان الخطاب يتجه نحو إعمال الإنجليزية كلغة ثانية بدلا من الفرنسية، التي ظلت ترافق التعليم المغربي باعتبارها إرثا استعماريا سماه البعض بغنيمة الحرب. وبالنظر إلى أن الإنجليزية هي اليوم لغة التكنولوجيا والعلوم، عادت لجنة المناهج بداخل المجلس لتتداول في الأمر، وتعيد الفرنسية إلى مكانتها السابقة بعد أن دخلت السياسة على الخط، وتحرك لوبي الفرنكوفونية للضغط بقوة. لذلك بدأ الحديث عن إمكانية جعل اللغة الفرنسية تدرس منذ الصفوف الأولى الابتدائية.
لم تغفل الاقتراحات التي يجب أن تكون أولوية، ما يتعلق ببعض الظواهر السلبية التي تعاني منها المؤسسات التعليمية. والتي وجبت معالجتها لتصحيح صورة المدرسة كفضاء للعلم والمعرفة، وفضاء يعطي العبرة والدروس لبقية مؤسسات المجتمع، من قبيل ظاهرة الغش في الامتحانات، وتدريس الساعات الخصوصية بالمقابل، والتي نجحت وزارة رشيد بلمختار في الحد منها. أما البديل، فهو ضرورة إرساء آليات لتقويم الأداء المهني لكل الفاعلين في المنظومة، ومواجهة تنامي ما سماه المجلس الأعلى للتعليم بأزمة الضمير المهني لدى بعض أطر هيئة التدريس، والعاملين في حقل التعليم بشكل عام، وذلك من خلال تفعيل القوانين الزجرية للمخلين بالواجب.
ويبقى التواصل والتعبئة حول المدرسة، رهانا حقيقيا وجب تحقيقه. فالمدرسة المغربية تعاني اليوم من العزلة في علاقتها بالمجتمع، حيث تنامي مشاعر عدم الثقة إزاء العاملين فيها، وتزايد التمثل السلبي للمواطنين بخصوص أدوارها. ويعزى ضعف التعبئة أساسا، إلى ضعف الاستراتيجية التواصلية لرؤساء المؤسسات التعليمية لاستقطاب الشركاء وفعاليات المجتمع المدني، وإلى ترويج وسائل الإعلام لأخبار سلبية تستهدفها، وتبالغ في إبراز مشاكلها وعيوبها. لذلك يقترح المجلس الأعلى في تقريره المستقبلي ضرورة أن تقوم الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين ببلورة خطة لدعم التعبئة حول المدرسة، وتنفيذ استراتيجية تواصلية متكاملة، بما فيها إعداد مخطط تكويني يستهدف مديرات ومديري المؤسسات التعليمية، وجمعيات آباء وأمهات التلاميذ وشركاء المؤسسة التعليمية.
هي مجموعة من الأولويات التي يرى مجلس عمر عزيمان أنها ضرورية، بعد أن قام باسثتمار ما حملته مقترحات كل الذين شاركوا في حملة الاستشارة التي أطلقها منذ بداية عمله. واليوم يرى المتتبعون أن الأفكار الكبرى للتقرير التركيبي، الذي يصدر قريبا، لن تتجاوز حدود هذه الأولويات خصوصا على المدى القريب.